تسعون نجاح سلام: البيروتيّة حفيدة “الإفتاء” تعزف العود وتغنّي

مدة القراءة 4 د

كانت نجاح سلام، التي احتفلت في منتصف هذا الشهر بعيدها التسعين، مولعةً بأمّ كلثوم. في صباها، وقبل تمكّنها من الغناء على المسرح، كانت تخشى أن تخرج على جمهور كبير وتغنّي لأمّ كلثوم. لكنّها، ومع احترافها شيئاً فشيئاً الغناء، ومع افتِتانها بألحان محمّد عبد الوهاب للستّ، قرّرت أن تغنّي الأعمال التي قدّمها موسيقار الأجيال لأمّ كلثوم بصوتها على مسرح مع فرقة موسيقيّة. فعلت ذلك على مسارح في لبنان، ونالت تصفيق الجماهير، حتّى إنّها في إحدى الحفلات، حملت منديلاً في يدها، تماماً كأمّ كلثوم، وإن كانت قد أدّت الأغنيات بصوتها وأدائها من دون تقليد. لكنّ السيدة البيروتيّة العظيمة لم تكن تتماهى مع أمّ كلثوم لرغبتها بالوصول إلى شهرتها، عبر أغانيها، بل كانت تشعر بالشبه الكبير بين سيرتها وسيرة الستّ، لجهة خروجهما من بيئتين محافظتين، وعائلتين دينيّتين. فنجاح، حفيدة أمين دار الإفتاء، الذي كان يقوم مقام المفتي في غيابه. ولم يكن يُعقَل أن تغنّي حفيدة “الإفتاء”، بل “هذا الأمر كان يُعتبر كارثة من الكوارث”، على حدّ قولها في إحدى مقابلاتها. هذا الأمر جعل والدها، الذي كان من أشهر عازفي العود اللبنانيّين وأمهرهم، يعارض دخولها عالم الغناء، حتّى إنه أخرجها من مدرسة “زهرة الإحسان” وأحضر لها أساتذة ليعلّموها العربيّة والإنجليزيّة في البيت لأنّها بدأت الغناء في كورال المدرسة. وما كانت نجاح سلام لتنجح في كسر عناد والدها، لولا محمّد عبد الوهاب.

كانت نجاح سلام، التي احتفلت في منتصف هذا الشهر بعيدها التسعين، مولعةً بأمّ كلثوم. في صباها، وقبل تمكّنها من الغناء على المسرح، كانت تخشى أن تخرج على جمهور كبير وتغنّي لأمّ كلثوم

فقد حضر موسيقار الأجيال إلى بيروت، وكان يزور والدها في الإذاعة ويسأله عن أصوات جديدة، وكان محيي الدين سلام يقدّم لمحمّد عبد الوهاب اقتراحات لأصوات جديدة، ويُسمعه تسجيلات. ومرّةً خلال وجود نجاح سلام في الإذاعة مع والدها، تنطّحت لتُسمع صوتها لمحمّد عبد الوهاب، الذي أُعجب بالصوت وطلب من أبيها أن يأتي بها معه في المساء إلى مقرّ إقامته في بحمدون للعشاء. وعلى الرغم من أنّ الأب عاند وقال لنجاح إنه “سيكسر رجليها إذا ذهبت إلى بحمدون”، قَبِل في النهاية بعد تدخّل من صديق مشترك أرسله عبد الوهاب إلى منزله لضمان أن يُحضِر محيي الدين ابنته معه. اقتنع الأب أخيراً بأن تغنّي ابنته، ووعدها محمد عبد الوهاب بأن يعطيها لحناً حينما تحضر إلى القاهرة. وغنّت أولى أغنياتها في بيروت من ألحان إيليّا المتنيّ الذي كان يعمل حلّاقاً، وأسمع والد نجاح لحن “حوّل يا غنّام” في صالون الحلاقة فأُعجب به، ثمّ غنّته نجاح سلام ولقي نجاحاً كبيراً، فنالت شهرةً واسعةً ولحّن لها عظماء الموسيقى العربيّة، وشاركت في عشرات الأفلام في القاهرة، وتعرّفت إلى أمّ كلثوم وفريد الأطرش، وعملت مع رياض السنباطي وحسين السيّد ومحمد عبد الوهاب وفيليمون وهبي ووديع الصافي. في فترة انطلاقتها في بداية الخمسينيات، كانت أكثر شهرة من فيروز، على حدّ قولها، وتميّزت دائماً بقدرتها على غناء أكثر من لون، وكانت تتفرّد بغناء الموّال فنّاً قائماً بذاته.

إقرأ أيضاً: “هوبّا”: روبي “لقاح” فَرَح في ليالي الحجر

في مقابلة متلفزة مشتركة مع وديع الصافي، بالأبيض والأسود، تعود للعام 1966، أجرتها معهما ليلى رستم، تتحدّث نجاح سلام عن علاقتها بالعود، الآلة التي كان يعزف عليها والدها، وكيف تعلّمت العزف عليه باكراً، وكيف يبدو مربكاً في مجتمعاتنا عزف المرأة على آلة موسيقيّة. لكنّها بجرأة وثقة عالية بالنفس، مجبولة ببعض الخجل، تأخذ عود وديع الصافي وتعزف عليه بالصوت والصورة أمام الكاميرات.

بعد هذه المقابلة، وبعد خمسين عاماً، في العام 2016، ولدى تكريمها في لبنان، سألها أحد المراسلين التلفزيونيّين، في مقابلة سريعة، عمّا إذا كان هذا التكريم مقدمة لعودتها إلى الساحة الفنّيّة بعد “اعتزالها” الفنّ، فأجابته نجاح سلام: “أنا لم أترك الساحة الفنّيّة، لكنّي حريصة على تقديم أعمال جديدة وحلوة… الفن رقي وعلم”، ثم في نهاية الاحتفال الذي أقامه المعهد الوطنيّ للموسيقى لتكريمها، وقفت بكامل أناقتها، وبسمتها، وحجابها الأبيض، وفستانها الذي قالت إنه “ثقيل” ويمنعها من الطيران، وغنّت بفرح عمّ القاعة: “ميّل يا غزيّل”.

مواضيع ذات صلة

مع وليد جنبلاط في يوم الحرّيّة

عند كلّ مفترق من ذاكرتنا الوطنية العميقة يقف وليد جنبلاط. نذكره كما العاصفة التي هبّت في قريطم، وهو الشجاع المقدام الذي حمل بين يديه دم…

طفل سورية الخارج من الكهف

“هذي البلاد شقّة مفروشة يملكها شخص يسمّى عنترة  يسكر طوال الليل عند بابها ويجمع الإيجار من سكّانها ويطلب الزواج من نسوانها ويطلق النار على الأشجار…

سوريا: أحمد الشّرع.. أو الفوضى؟

قبل 36 عاماً قال الموفد الأميركي ريتشارد مورفي للقادة المسيحيين: “مخايل الضاهر أو الفوضى”؟ أي إمّا القبول بمخايل الضاهر رئيساً للجمهورية وإمّا الغرق في الفوضى،…

السّوداني يراسل إيران عبر السعودية

 لم يتأخّر رئيس الوزراء العراقي محمد شياع السوداني ومعه قادة القوى السياسية في قراءة الرسائل المترتّبة على المتغيّرات التي حصلت على الساحة السورية وهروب رئيس…