يقبض “حزب الله” على لبنان من خلال سيطرته على المؤسسات الدستورية عبر التحالف الحاكم في الرئاسات الثلاث: قصر بعبدا، ومجلس النواب، والسراي الحكومي، فضلًا عن أذرعه الممتدة في الوزارات وباقي المؤسسات الأمنية والإدارية. ومن الواضح أنّ البلد وصل إلى طريق مسدود، بعد أن أسقط الحزب كل المسافات الفاصلة بينه وبين الدولة، و”أقنع” العالم أنّه هو الحاكم المطلق. وهذا الاقتناع أوصل لبنان إلى الانهيار مع تفاقم تداعيات تحالف السلاح والفساد.
هل يمكن إحداث التغيير الذي يسمح بعودة لبنان إلى موقعه في المجموعة العربية وفي المجتمع الدولي، بالوسائل السياسية التقليدية، أي بانتظار الانتخابات النيابية ومحاولة إعادة تشكيل أغلبية معارِضة لـ”حزب الله”، تتولى “تحرير” لبنان من الاحتلال الإيراني السياسي والاستراتيجي، كما يسمّيه بشكل دقيق، النائب نهاد المشنوق؟
كلّ المؤشرات المنطقية تؤدي إلى استبعاد هذه الفرَضيّة، لأنّ الحزب لن يتخلّى عن “مكتسباته”، خصوصًا في هذا التوقيت الدولي الدقيق، الذي يشهد مخاضات التفاوض المتداخل حول مصير المنطقة وأدوار الدول الكبرى والدول الإقليمية. وبالتالي، فإنّ المراهَنة على أنّ الانتخابات النيابية ستكون العنصر الأساس في الخروج من المأزق، ليست في محلّها. هذا فضلًا عن أنّه سبق لقوى 14 آذار أن شكّلت الأكثرية، لكنّ سلاح الحزب كان هو الحاسم، وليس العملية الانتخابية.
نورد هذا السياق للولوج إلى عمق الكارثة الراهنة، التي باتت تتجاوز تشكيل الحكومة، وتجعل الفعل السياسي ضمن المؤسسات الدستورية عملًا عبثيًّا، لا يُنتظر منه إلّا المزيد من الغرق في وحول الانهيار. ونظرة متبصِّرة لسلوك التحالف الحاكم في إدارة الكارثة، المبنيّ على المزيد من النهب والاستحواذ، تعطي فكرة واضحة عن مجموعة لا يعنيها سوى بقائها في السلطة.
الحزب لن يتخلّى عن “مكتسباته”، خصوصًا في هذا التوقيت الدولي الدقيق، الذي يشهد مخاضات التفاوض المتداخل حول مصير المنطقة وأدوار الدول الكبرى والدول الإقليمية
قد يتساءل البعض: هل يقبل “حزب الله” سقوط البلد؟ وهل يقبل الرئيس ميشال عون بأن يشهد عهده انهيار لبنان؟
هذا التساؤل يبدو ساذجًا إذا أدركنا أنّ طبيعة الحكم في دول المحور الإيراني، لا تقوم على السعي لرفاهية الشعوب وتطوير مقدّرات الدول، بل تتعمّد إفقار الناس لإنهاكها، وتحويل مؤسسات الدولة إلى مرتع للفساد لتمويل الكيانات الناشئة خارج الدولة، مثل الحرس الثوري والحشد الشعبي وغيرها من الأنماط الميليشيوية، فضلًا عن نشاطات التهريب المختلفة، التي باتت من الأنشطة التي يقوم عليها المحور الإيراني.
لهذا، لا يمكن أن ننتظر من “حزب الله” وحليفه البرتقالي، أن يكونا معنيّيْن بتفكيك الأزمة أو السعي للخروج من الكارثة. بل إنّ هذا سيكون منطلقًا لفهمٍ مغلوطٍ لطبيعة المنظومة الحاكمة، وكيف تتصرّف وكيف يمكن توقّع خطواتها وأفعالها.
أمام هذه المعادلات المدمِّرة، وبالنظر إلى أنّ لبنان الدولة والمؤسسات الدستورية والأمنية والقضائية، أصبحت في قبضة “حزب الله”، ومع انسداد الأفق السياسي، وإصرار الرئيس عون على استخدام الأمن والقضاء، لقمع الشعب، يعتقد البعض أنّ الانهيار هو الطريق الوحيد المتاح للتخلّص من احتلال “حزب الله”، لأنّ “الدولة” بوضعها الراهن لم تعد قابلة لا للتأهيل ولا للإصلاح، وكلفة ترميمها باتت أعلى من كلفة إعادة بنائها.
يعتبر أصحاب هذه النظرية أنّ الانهيار بات ضروريًّا لدولة نخرها الفساد، وباتت مصدرًا لشرعية ميليشيا تمتصّ مقدراتها، وتعمل على تحويل مؤسساتها إلى واجهة لأدوار إقليمية تناقض مصالح الشعب اللبناني، وتجعله في حالة عداء مع محيطه العربي. فالانهيار سيُسقط سيطرة “حزب الله” على الدولة، وسيجعل المناطق اللبنانية تتحرّر من تسليط الأمن عليها بالإمرة السياسية، كما يحصل في اجتماعات القصر الجمهوري.
الأهم في هذا المسار، أنّ الانهيار يعني سقوط مؤسسات الحكم: مجلس النواب والحكومة ورئاسة الجمهورية، وسيخسر “حزب الله” الأغلبية النيابية، ويخسر الإمرة السياسية على مؤسسات الدولة، وسيعود تنظيمًا مسلّحًا يسيطر على شوارع الضاحية وقرى وبلدات الجنوب وبعض البقاع أو حتى مناطق أخرى، وسيكون عليه لتثبيت سيطرته القيام بما يشبه السيناريو اليمني، ليفرض سلطته على العاصمة وجوارها، مع ما يعنيه ذلك من تعقيداتٍ في الموقف، نتيجة تحوّله قوّة احتلال معلنة.
قد يتساءل البعض: هل يقبل “حزب الله” سقوط البلد؟ وهل يقبل الرئيس ميشال عون بأن يشهد عهده انهيار لبنان؟
يدرك الكثيرون في لبنان والخارج، أنّ هذا المسار بات وشيك التحقيق. وما موقف قائد الجيش العماد جوزف عون، الذي حذّر من سقوط الكيان واتهم “المسؤولين” بالمخاطرة بمصير الجيش والوطن، ثمّ إعادة البطريرك الماروني بشارة الراعي، رفض وضع الجيش في مواجهة الشعب، وضرورة تأمين احتياجاته، إلّا قرع الجرس الأخير قبل وقوع الواقعة.
شكّل موقف البطريرك الراعي اعتراضًا مباشرًا على استهداف الجيش، الذي صرّح قائده أنّه بات يعتمد على المساعدات لتغطية الحاجات الأساسية. لكنّ ما لم يتحدث عنه القائد، هو أنّ آليات الجيش البرية والطرّادات البحرية والطائرات، تفتقر إلى قطع الغيار، وسيأتي وقت ليس ببعيد، تتوقف عن الحركة بسبب توقّف المساعدات، وعجز الدولة عن تأمين متطلبات المؤسسة العسكرية.
إقرأ أيضاً: الحزب يستنجد بإيران لمواجهة بكركي: أيّ حوار؟
السقوط والانهيار هو الآن المسار الأكثر واقعية، مع تداعياته الكارثية التي تلامس ملامح تفلّت المناطق وتحوّلها إلى ما يشبه الحكم الذاتي، وعودة الجيش إلى حالة الحياد، أو الالتحاق المناطقي، مع وقوعه تحت ضربات الحصار المالي واللوجستي، الأمر الذي سيفتح الباب أمام التدخلات الدولية لوقف الفوضى المؤثّرة على الجوار المتوسطي، وسيشرّع بلادنا أمام الأدوار الإقليمية الموزعة بين السعودية وتركيا، مع الاصطفافات الجديدة، وعودة الاتصالات بين عواصم العالم السنّي: الرياض وأنقرة، والقاهرة والدوحة، وأبو ظبي.
السباق الآن في أمتاره الأخيرة، بين الانهيار والفوضى، وبين الاستدراك الدولي والعربي والإقليمي، والذي لا يمكن تحقيقه من دون حلّ معضلة تلبّس “حزب الله” في الدولة، فلا قيامة لها قبل خروج شيطان السلاح منها.