طفل حزين في أحضان أمّه. الفيديو يُظهر بوضوح كم أنّه يبدو حزينًا ومتجهّمًا. يقترب منه شخص، ويضع له جهاز سمع في أذنه، ويبتعد عنه وعن الأم. برهة، وتنقلب ملامح الطفل ليظهر على وجهه فرحٌ لا يمكن وصفه. الفيديو يعرض لنا ردود أفعال أطفال مصابين بالصمم، لدى اختبارهم نعمة السمع أوّل مرّة. شيء أشبه بمعجزة، نراها مباشرةً أمامنا، ونرى تفاعل أطفال يعانون مشاكل في السمع، وهم يسمعون أصوات أمهاتهم ومحيطهم لأوّل مرّة.
خطر لي هذا الفيديو، المنتشر بكثافة على مواقع التواصل الاجتماعي، حينما وضعتُ سماعات الـ”هيد سيت” للاستماع إلى أغنية روبي الجديدة “حِتَّة تانية”. رأيتُ أصدقاء شاركوها عبر فايسبوك، وقلت لنفسي: لا بدّ أن تُسمع روبي بصوت عالٍ ونقيّ. لن أسمعها عبر صوت الهاتف. أحضرت السماعتين المزوّدتين تقنية “إلغاء الضجيج” وشغّلت الفيديو، في وقت متأخر من إحدى ليالي الحجر الطويلة والثقيلة.
بدأتُ بالاستماع وكأنّني أحاول تكوين انطباع أوّلي عن الأغنية قبل أن أتفاعل معها، حتّى وصلت إلى مقطع “أصل الأفندي ده في حتة تانية عندي/ مترستق جوّا في قلبي/ وفي قلبي لوه غلاوة”. هوبّا! هنا أستطيع ان أحدَس أنّ ملامح وجهي، وأنا أسمع الأغنية، تشبه ملامح الأطفال في فيديو استعادة السمع. كنت أبتهج بأثر الأغنية، كما لو أنّني لم أسمع موسيقى من قبل. بل كدتُ أبكي من الفرح.
خطر لي هذا الفيديو، المنتشر بكثافة على مواقع التواصل الاجتماعي، حينما وضعتُ سماعات الـ”هيد سيت” للاستماع إلى أغنية روبي الجديدة “حِتَّة تانية”
ولا أقول هنا إنّ القيمة الموسيقية لما سمعته كانت استثنائية. بل إنّ وقع الايقاعات مع دلع روبي مع فرح الأغنية، أدخل إلى القلب المليء بخيوط عنكبوت، هبّة هواء باردة ومنعشة. وهذا دور الحلوة روبي. هذا دور ضحكاتها، وصوتها الذي لا يحمل إمكانات تطريبية كبيرة، لكنه يحمل شخصية تقدّم الفرح على كل ما عداه، وتقدّم الأحاسيس، كل الأحاسيس، بما فيها الحزن، في جوّ لا يمكن معه إلا التفاعل والذوبان في الدلع. وهذا دور تلعبه من زمان، في فيديو كليباتها، وفي أدوارها السينمائية، وفي مشاركتها في المسلسلات التلفزيونية، وفي حضورها ضيفة في البرامج أو في وقوفها على المسرح.
هذه الحلوة تعلم تمامًا من أين تؤكل القلوب. تلتهمها كلها كفاكهة موسمية. كحبّات فراولة طرية. ونحن نراقبها برضا، وهي تلتهم قلوبنا، غير آبهين إلّا باللحظة الحلوة التي تقدّمها لنا، بمعزل عن الأنماط السائدة، وعن الفن، كفنّ، وعن التقييم الموسيقي. تستطيع أن تخرج على كل ذلك، بمجرد أنّها تصنع الفرح، وتقدّمه طازجًا إلينا. وفرحها الذي تصنعه، لا يبدو أنّه “يبيت” مع الوقت. بل إنّ أغانيها القديمة لها مفعول المربّيات المنزلية الشهية، حينما تؤكل في جوع إلى السكّر في الليالي القارسة.
إقرأ أيضاً: نانسي عجرم تودّع و”تشخبط” عالحيط: سنعود!
تأتي روبي في الحجر كلقاح ضدّ الحزن وضدّ الاكتئاب، تأتي جرعة فرح مكثّفة قادرة على نقل المزاج من القعر إلى القمة في ثلاث دقائق، لا يشعر معها المستمع أنه يكتفي، فيعيد الكرّة، كما لو أنّ دماغه يطلب جرعة زائدة، و”هوبّا!” تجد أنك تريد أن تعيد الفيديو من أوّله، لكي تحصل على الشعور الأوّل، الذي لا بدّ ان يتراجع شيئًا فشيئًا، لكنه لا يضمحل، يتحوّل، كما باقي أغنيات روبي، إلى مربّى. تضعه هناك، على الرفّ، وتعلم أنك ستعود إليه عندما ينخفض سكّر الفرح في الدم. تمامًا كما تفعل مع باقي مربّيات روبي: “بقالي ليالي”، “طب ليه بيداري كده”، “يالرموش يا سهام قوية”… وغيرها. تنتقي منها، مع غيرها من حلويات الروح، في الموسيقى العربية، لتحلّي مرارة هذه الأيام.