بكركي هي الحلّ: الحياد والمؤتمر الدولي

مدة القراءة 7 د

هناك خمسة مصادر أو منصات لمراقبة تطوّرات الوضع اللبناني باتجاه الفوضى المفزعة.

– المنصة الأولى: متابعة التحركات في الشارع في سائر أنحاء لبنان. فالذين ينزلون ليسوا كثيرين، ثم هم يسارعون لسدّ الطرقات بالإطارات المشتعلة (لإظهار أنّهم يملكون شيئاً) أو بالصخور (لإظهار الجرأة) أو بالشاحنات (التي يُرغمون سائقيها على إعطائهم مفاتيحها فيسدون بها الطريق ويختفون مع المفاتيح!)، وأخيراً فإنّ من مفردات المنصة الأولى، هذه العودة إلى البهورة بمحاولة اقتحام مجلس النواب أو البنك المركزي أو بعض الوزارات. وبالطبع فإنّ الأرباب الجدد لهذه الأساليب” المتطوّرة” يتحدثون بتعابير غليظة إلى وسائل الإعلام عن انهيار العملة، ويوزعون الشتائم المقذعة على اللصوص المعروفين من “كلن يعني كلن”.

– المنصة الثانية: وسائل التواصل التي تحدث  فيها اشتباكات تشاتمية لو وصلت إلى الأرض لأحدثت مذابح، وربنا يستر. المشاركون في وسائل التواصل أكبر عدداً من متظاهري الدواليب والشاحنات، وأكثر استعداداً للتخريب وإطلاق الشتائم والاتهامات، وكل ذلك بالكلام حتى الآن. 

القصد من الحياد ومن المؤتمر الدولي وحتى من “حكومة المهمة” واحد: أن لا نظلَّ “محليين” حتّى تستطيع المنظومة المتناغمة الاستمرار في التحكم بنا

– المنصة الثالثة: جديدة/قديمة. هي قديمة، لأنّ استعمالها بدأ مع الأسابيع الأولى لانطلاقة حركة 17 تشرين. فقد كان همُّ “جمهور” الثُنائية المعروفة إظهار أن لديها جمهوراً في مواجهة جمهور اللبنانيين المتظاهرين، ولكي يتعاظم التأثير فقد كانوا يواجهون الناس الذين نزلوا مع أطفالهم بالاشتباك معهم أو بالصراخ في وجوههم بشعاراتٍ طائفية. فإذا سألْتَ أحدهم: لماذا تفعلون ذلك؟ هل لأنّ عندكم مطالب مختلفة؟ فإنهم لا يجيبون، أو يشتمون وحسب. أما الجديد في حركة هذه الممانعة البديعة فمحاولة تنحية المتظاهرين الآخرين أو الحلول محلَّهم، لكنّ شعارهم الوحيد: يسقط حكم المصرف، أو الطواف على الموتوسيكلات الكثيرة في شتّى الاتجاهات، بما في ذلك باتجاه قصر بعبدا.

– المنصة الرابعة: تتكوّن من خليطٍ من السياسيين من الفِرَق المختلفة والذين يظهرون في وسائل الإعلام ويشتمون خصومهم الحاضرين أو المفترضين بدون داعٍ وبدون نتيجة.

– المنصة الخامسة: تتكوّن من دبلوماسيين غربيين يمثلون بلادهم في لبنان، ومسؤولين سياسيين غربيين أو “شرقيين” يندفعون لشتم وإدانة الطبقة السياسية أو الحاكمة التي لا تهتم بمآلات الانهيار، دونما مراعاة لآداب المهنة الدبلوماسية وأعرافها.

إنها الفوضى المخيفة الآتية التي بدت نُذُرُها، أو هي الفوضى التي دخلنا في غمارها. فلا المتظاهرون هم الذين عرفناهم بعد 17 تشرين، ولا السياسيون هم الذين عرفنا حماسة كلّ منهم لنصرة فريقه قبل عامٍ ونيف. لقد اختلط الحابل بالنابل، وبدأ رمْي القنابل، كما يقال. وما عاد أحدٌ وسط هذا الضباب المتعاظم والمتفاقم يبحث عن حلٍ أو يتحدث عنه. ويزيد الطين بلّة هذا الاشتباك المندلع كل يومين أو ثلاثة بين أجهزة القصر ومستشاريه من جهة، وبين مكتب أو مكاتب الرئيس المكلّف من جهةٍ أُخرى. وعلى ماذا؟ ليس على البرنامج الإصلاحي الذي يمتلكه كلٌّ منهم، بل على الأثلاث والأرباع والأخماس. وقد كان الزعيم المعصوم يستمتع بدور الحَكَم، لكنه يشعر الآن أنّه فقد السيطرة على اللعبة. ولقلّة الحيلة أو كثرتها يتسارع الجميع لملاقاة الروسي، وهو الفريق الجديد الذي دخل إلى الساحة، ولا يعرف الكثيرون ماذا يقصد بحركته، وماذا يملك من نفوذ، وهل هو يقصد للاهتمام بالوضع السوري ويتحدث في لبنان   على طريقة: إياكِ أعني واسمعي يا جارة. فحتّى الحزب المعصوم ذهب إلى روسيا.

هناك من جهةٍ إذن هذا الكانون الذي يغلي، وهناك الفرقاء الثلاثة: بعضهم يحاول رشّ الماء حتى “لا تشوشط الطبخة”، وبعضهم يضع الحطب لتزداد النار اشتعالاً، بينما ينتشر الخوف والهَلَع لدى الفريق الثالث المكوَّن من معظم اللبنانيين.

الحملة على مبادرات البطريرك من الجهات المعروفة، تزيدنا تمسُّكاً بها. فلنبقَ مع هذه الأفكار والمشروعات العاقلة والبعيدة النظر، أو فلننتظر السقوط الكامل بعد الانهيار الشامل في الفوضى الشاملة

أنا اعتبرت كلام قائد الجيش تحوّلاً بارزاً في الأزمة. فالجيش يكاد الانهيار ينال منه حتى في غذائه، وهو من ناحيةٍ أُخرى ما عاد يستطيع ضمان انضباط العسكر أو الشارع أو الأمن الوطني.

الكلّ خائفٌ من اندلاع الفوضى، والكل عاجزٌ عن التفكير بالبدائل. ما عاد عندنا كلام إلاّ عن تشكيل “حكومة المهمة” التي ينبغي أن تصنع العجائب إذا تشكّلت، لكنّ معجزة الولادة القيصرية هي كلُّ ما يمكن توقُّعُهُ منها. ولو كان باسيل ذكياً لسمح بالتشكيلة ثم انتظر ليشهد على الفشل وليقول: ألم أقُلْ لكم؟! لكنه لحسن الحظ لا يستطيع القيام حتى بهذه “المناورة” لأنه مضطر للبقاء “بارافان” في الوقت الذي ينتظر سيّده ماذا يحدث أو لا يحدث بين الولايات المتحدة وإيران.

من الذي يخاف من الفوضى؟

بالطبع السواد الأعظم من اللبنانيين يخافون من الفوضى أو يعتبرونها كابوساً. أما تحالف الميليشيا والمافيا فيستخدمها من أجل إلقاء اللوم على الآخرين، ومن أجل إثبات حاجتنا إليه. والذي يعيش على المشكلة، يحبّ ألا تزول، إذ تزول بذلك ميزاته.

لذلك فإنّ معظم اللبنانيين – حتّى لا أكون مبالغاً – اعتبروا مبادرات البطريرك أملاً وحيداً في الأفق. تلبَّث البطريرك بشارة الراعي قليلاً عند عنوان تحرير الشرعية، وأعطى بعض الوقت للحديث عن ضرورة تشكيل الحكومة الجديدة. لكنّه مضى عامداً لالتماس الخلاص في الحياد، وفي المؤتمر الدولي بالأمم المتحدة من أجل لبنان.

والواقع أنّ هذين الأمرين اللذين يرى كثيرون صعوبة حصولهما، يكمل كلٌّ منهما الآخر. الحياد يعني الخروج من أسر المحور الإيراني، وهو أمرٌ غير ممكن إلاّ بقرار دولي تتوافر العزيمة على إنفاذه. ومن جهةٍ ثانيةٍ عندنا إدارة سياسية فاشلة وفاسدة. وفي حالاتٍ مشابهة حول العالم، تطلَّب الأمر تدخلاً دولياً.  

لقد كنا نخشى الدولة المستبدة، إنّما بعد الوقوع تحت قبضة تحالف الميليشيا والمافيا، فقد صِرنا نخشى على الكيان والدولة. كان الحال الخوف من الدولة، والحال الآن الخوف عليها. الأزمة وجودية كما قال البابا فرنسِس. فلنستجب لبكركي من أجل الإنقاذ والخلاص

منذ عشر سنوات أو أكثر يجري الحديث عن الاستراتيجية الدفاعية، ويتصور السذَّج منّا إمكان أن يسلّم الحزب المعصوم بمقتضاها أسلحته إلى الجيش. فهل بنت إيران كل هذه المنظومة الضخمة لكي تسلّمها على “البارد المستهين” كما يقال، للجيش؟!

ثم إنّه لو كانت الظروف في السابق ملائمة لما احتجنا إلى حوارات وطنية من أجل ذلك: كان يكفي تطبيق القرارين الدوليين رقم 1559 و1701. القرار الدولي رقم 1559 واغتيال الرئيس الحريري أخرجا الجيش السوري. والقرار ذاته والانهيار الفظيع ينبغي أن يكون كافيين لنزع سلاح الحزب وإبعاد الاستيلاء الإيراني.

أما التدويل المخوّف، فقولوا لنا إن كنتم تخشونه ماذا كنتم لتفعلوا أصلاً: أليس المُضيّ لصندوق النقد الدولي وما شابه؟ وما هو صندوق النقد الدولي؟ هل هو مؤسسة للصدقات أم هو القرض الحسن؟

بل هو مؤسسة دولية لها شروطها ولها خططها التي لا تُعجب بالفعل لا باسيل ولا  الزعيم.

ما فعل البطريرك إلاّ الصواب، بعد أن  تعب منكم بسبب باطلكم وفسادكم.

لقد اهتمت بنا فرنسا. ويهتم بنا البابا. وها هم الروس قد بدأوا يهتمون. وبدون إقبالٍ دوليٍّ لن يساعدنا أحد. وهذا ما قاله الفرنسيون عشرات المرات، وبعدهم كل الأوروبيين، والآن الأميركيون والروس، وما بقي غير الصينيين الذين كان الزعيم ينصح بالمضيّ إليهم، فلماذا لا يأتي بهم لمعادلة الضغوط الغربية والعربية؟

إنّ القصد من الحياد ومن المؤتمر الدولي وحتى من “حكومة المهمة” واحد: أن لا نظلَّ “محليين” حتّى تستطيع المنظومة المتناغمة الاستمرار في التحكم بنا.

إقرأ أيضاً: بكركي تواجه السلاح والإنقسام: انتهاء “العونية” شعبياً

نعم، إنّ الحملة على مبادرات البطريرك من الجهات المعروفة، تزيدنا تمسُّكاً بها. فلنبقَ مع هذه الأفكار والمشروعات العاقلة والبعيدة النظر، أو فلننتظر السقوط الكامل بعد الانهيار الشامل في الفوضى الشاملة.

لقد كنا نخشى الدولة المستبدة، إنّما بعد الوقوع تحت قبضة تحالف الميليشيا والمافيا، فقد صِرنا نخشى على الكيان والدولة. كان الحال الخوف من الدولة، والحال الآن الخوف عليها. الأزمة وجودية كما قال البابا فرنسِس. فلنستجب لبكركي من أجل الإنقاذ والخلاص.

مواضيع ذات صلة

انتخابات أميركا: بين السّيّئ.. والأسوأ

واشنطن   أصعب، وأسوأ، وأسخن انتخابات رئاسية في العصر الحديث هي التي سوف تحدّد من هو الرئيس رقم 47 للولايات المتحدة الأميركية. في الوقت ذاته…

قراءة سياسيّة في أزمة النّزوح… التي ستطول

حرب عامي 2023 و2024 لا تشبه حرب عام 2006 في العديد من الأمور، ومنها الحكومة القائمة وقتها، والحماسة العربية والدولية للبنان، والحجم الأقلّ للحرب وخسائرها….

رعب أوروبا من تقاطع ترامب وبوتين فوق سمائها

قبل ساعات من فتح صناديق الاقتراع، لا تخفي عواصم في أوروبا قلقها من عودة دونالد ترامب إلى البيت الأبيض. ولا يقوم ذلك القلق على شكّ…

“الميدان” الذي ننتظر “كلمته” يتمدّد من الخيام إلى إيران

“الكلمة للميدان” هي اللازمة التي تردّدها قيادة الحزب في تعليقها على جهود وقف النار في لبنان وشروط إسرائيل. بين ما يرمي إليه استخدام هذه العبارة…