في ذكرى الـ143 للتأسيس، لا يمكن الحديث عن “جمعية المقاصد الخيرية الإسلامية” من دون الحديث عن الزعيم الراحل الرئيس صائب سلام.
ترعرعنا في بيروت وتحديداً في منطقة المصيطبة بشارع “الدبش”، الذي كان صائب بك، كما يحلو لوالدي وأبناء جيله مناداته، يتفاخر بالانتساب إليه.
حيّ مع الأيام تحوّل إلى شوارع حملت أسماء الخلفاء الراشدين الأربعة: أبو بكر وعمر وعثمان وعلي، رضوان الله عليهم أجمعين.
سُمي الشارع بحيّ “الدبش” وفقاً لروايتين شعبيتين تناقلتهما الألسن. الاولى أنّ المهنة الرئيسية لأبنائه من آل العيتاني وعانوتي وجويدي ومناصفي وغيرهم هي في البناء وتحديداً بنقل الدبش (الحجارة الرملية) لزوم تشييد المنازل والقصور في تلك المنطقة. أما الرواية الثانية فتقول إنّ الشارع سُميّ بالدبش لأن صفات أبنائه العناد والصلابة والمواجهة.
لم تولد جمعية المقاصد على يد صائب سلام، فهو الرئيس الثامن بعد المؤسس عبد القادر قباني عام 1878 وصولاً إلى الرئيس الحالي الدكتور فيصل سنو. إلا أنّ وجود صائب بك على رأس الجمعية شكّل تحولاً فارقاً وتاريخياً في مسيرتها، بعظمته وأهميته
ميزة ساكن القصر الأبيض في المصيطبة – حيّ الدبش، أي الرئيس صائب سلام، أنّه اختصر الروايتين بشخصه. فكان كالبنّاء في تشييد المؤسسات وقيادتها وعلى رأسها جمعية المقاصد كما كان الراحل صلباً عنيداً في السياسة والثورات وتحديداً في ثورة 1958، التي حولته الى زعيم وطني بيروتي.
لم تولد جمعية المقاصد على يد صائب سلام، فهو الرئيس الثامن بعد المؤسس عبد القادر قباني عام 1878 وصولاً إلى الرئيس الحالي الدكتور فيصل سنو. إلا أنّ وجود صائب بك على رأس الجمعية شكّل تحولاً فارقاً وتاريخياً في مسيرتها، بعظمته وأهميته. ظلم كل الرؤساء الذين سبقوه وصَعّب المهمة لا بل جعلها مستحيلة على الرؤساء الذين خلفوه على رأس الجمعية أو ربما سيأتون في المستقبل.
حكاية صائب بك مع المقاصد بدأت منذ كان في سن الـ13 عام 1919 ويرويها هو نفسه في كتاب “صائب سلام: كلمات ومواقف مقاصدية (1958 – 1982)” فيقول: “كنت في أوائل عمري، حينما رافقت والدي إلى دار الجمعية في مكاتبها في مبنى البازركان، تجاه شارع أياس، وكان في المبنى نفسه مستأجِر (خياط)، فأخذ يعالجه ويناقشه طويلاً، إلى أن انتهت النتيجة بأن أخذ منه ليرتين ذهباً ووضعهما في جيبه، ثم صعدنا سوية إلى مكاتب الجمعية، حيث التقينا الكاتب السيد راشد طبارة فقال له: “يا راشد، خذ هاتين الليرتين، لقد تمكنت أن آتي بهما من المستأجر الخياط هنا”. فسُرّ الرجل وقال: “أطال الله عمرك وشكراً لك، وأخذ الليرتين”.
يقول الدكتور عصام شبارو في كتابه “الرئيس صائب سلام – باني العصر الذهبي الثاني لجمعية المقاصد الخيرية الإسلامية” الصادر عن دار النهضة العربية عام 2016: “كان من حسن حظّ جمعية المقاصد أن يتولّاها الرئيس صائب سلام سنة 1958، وهي السنة التي جعلته الزعيم البيروتي دون منازع، بعد قيادته الثورة في بيروت، بالتنسيق مع الزعيم العربي جمال عبد الناصر الذي عزّز دور مصر في دعم الجمعية، فتفجّرت عروبة طلاب المقاصد، بشكل لم يسبق له مثيل في الفترة 1958 – 1967، بعد أن وصلت الروح الوطنية والقومية، ذروتها مع قيام الجمهورية العربية المتحدة بوحدة مصر وسوريا، في 21 شباط 1958”.
أدرك الرئيس سلام كره السُنّة وتحديداً البيارتة للأحزاب بشكلها التقليدي، فحوّل المقاصد إلى ما يشبه الحزب على الطريقة الغربية لجهة التنمية والولاء والهوية، لا أن تكون حزباً راديكالياً على طريقة الأحزاب العربية. فكانت “ظاهرة المقاصديين”
قاد صائب بك المقاصد باتجاهين، نحو هدف واحد. الاتجاه الأول بتحويلها إلى مؤسسة متنوعة النشاط من التعليم بكل أنواعه المدرسي والجامعي والمهني والبحثي إلى الرعاية الاجتماعية وتحديداُ الطبية. أما الاتجاه الثاني فجاء بتحويل المقاصد إلى مؤسسة راعية تلعب دور الأبوة لباقي الجمعيات الاسلامية الفاعلة كدار الايتام ودار العجزة ومؤسسات محمد خالد وغيرهم من الجمعيات.
أدرك الرئيس سلام كره السُنّة وتحديداً البيارتة للأحزاب بشكلها التقليدي، فحوّل المقاصد إلى ما يشبه الحزب على الطريقة الغربية لجهة التنمية والولاء والهوية، لا أن تكون حزباً راديكالياً على طريقة الأحزاب العربية. فكانت “ظاهرة المقاصديين”، وهي صفة يفتخر بها كل من درس في المقاصد وتخرّج منها، مع تحوّل هذه الصفة بطاقة عبور لكل هؤلاء إلى المناصب والوظائف والمراتب العليا في الدولة.
تمكّن الرئيس صائب سلام من إنزال المقاصد من برجها البرجوازي النخبوي إلى الشارع والأزقة في بيروت. باتت جمعية السُنّة والبيارتة تعمل طوال السنة في الإنماء والبناء والتطوّر، لتتحوّل عند الاستحقاقات السياسية والانتخابية إلى حزب أو ماكينة انتخابية كرّست زعامة صائب سلام ونصرته بالانتصار على خصومه في كل المراحل بمواجهة الرئيس كميل شمعون، ثم بمواجهة الشهابية فكان البطل الذي يقتحم مكاتب التنصّت للشعبة الثانية معلناً عن نهاية عصر الأشباح.
من أصل 38 خطاباً ألقاها الرئيس صائب سلام في مسيرته السياسية كان هناك خطابان رسما صورة المقاصد ودورها فكانت المعادلة السحرية التي إن حادت عنها المقاصد سقطت. الخطاب الأوّل في دار الايتام الاسلامية في 18 تشرين الثاني 1979 في حفل تكريمي على شرفه فكانت كلمته تحت عنوان “شرّ الحرب وخير المقاصد”، والثاني في حفل تخريج طلاب المقاصد عام 1980 حين كانت كلمته تحت عنوان “كلمة المقاصد.. الموقف الوطني”. العنوانان يُغنيانك عن قراءة الكلمتين. المقاصد عند الرئيس سلام هي الضوء في زمن الظلمة وهي الراعية للناس بالخير في زمن الحروب وشرورها، كما أنّها الموقف الوطني في اللحظة السياسية. هي أكبر من جمعية تدقّق في دفاتر حساباتها، هي حزب الآودام، المصطلح الذي انتهى إليه نجل صائب سلام الرئيس تمام سلام.
إقرأ أيضاً: 143 سنة على تأسيسها: جمعية خيرية بمقاصد وطنية
في ذكرى الـ143 لتأسيس المقاصد، يبقى السؤال: كم نحن بحاجة لامثال صائب سلام في قيادة المؤسسات، وفي صنع السياسات لرسم الدور الوطني لطائفة كبرى مصيرها من مصير الوطن.