بعد سبع سنوات من الإبادة الجماعية التي نفّذها “داعش” ضدّ الإيزيديين في آب 2014، شمال العراق، ظلّ 7200 طفل وامرأة أيزيدية في أسر “داعش”، بعدما تعرّضت النساء للاغتصاب المتكرّر، والمتاجرة الجنسية بهنّ. وقد انتهت تلك المأساة إلى حمل بعض النساء ووضعهنّ أطفالًا، أُجبرن على التخلّي عنهنّ لقاء فكّ أسرهنّ، منذ سنتين.
لا شكّ أنّه خيار صعب لإنهاء مأساة هي من الأكثر إيلامًا في الزمن المعاصر.
فبعد نجاتهنّ من وحشية الجهاديين وحرمانهنّ الطفل، إلى جانب وصمة “العار” التي تطلقها الدائرة الإيزيدية المحيطة بهنّ، والتي سترافقهنّ إلى الأبد، بسبب جريمة هنّ ضحاياها، وضع المجتمع الأيزيدي النساء المظلومات أمام خيار آخر لا يقلّ صعوبة: على المرأة الناجية أن تنسى أسرتها ومجتمعها، في حال ارتضت أن تعاود رؤية طفلها، ولو بعد سنين من الحرمان والمعاناة، وإلا فقد يكون القتل هنو العقاب لها وللطفل.
هذا المأزق، ظهر الأسبوع الماضي، بعد لمّ شمل تسعٍ من هؤلاء النساء مع أطفالهنّ على معبر فيشخابور الحدودي في العراق. تسعة نساء قرّرن نسيان أهلهنّ وبيئتهنّ ليربّينَ أطفالًا من مغتصبيهم الداعشيين المجهولين حاليًا.
وضع المجتمع الأيزيدي النساء المظلومات أمام خيار آخر لا يقلّ صعوبة: على المرأة الناجية أن تنسى أسرتها ومجتمعها، في حال ارتضت أن تعاود رؤية طفلها
واحدة منهنّ فتحت قلبها لـ”نيويورك تايمز” وتحدّثت عن “صدمة” اعترتها وطفلتها لحظة الاحتضان. الطفلة عمرها سنتان، ولا تعرف أمّها، ولا تفهم أنّ من تحتضنها هي التي أنجبتها، وأنّها نجت من أهوال لا يمكن تصوّرها، وانتظرت طويلًا هذه اللحظة ودفعت كلّ الأثمان السابقة واللاحقة.
بحسب المعلومات، بقي في دار الأيتام في شمال شرق سوريا 30 طفلًا آخرين، تحت الإدارة الكردية، كانت أمهاتهم إما خائفات جدًّا من طلب إعادتهم، أو قرّرنَ عدم الاحتفاظ بهم.
عندما تم إطلاق سراح الشابات بعد سقوط آخر قطعة من أراضي داعش في سوريا قبل عامين، قيل للكثيرات، بشكل غير صحيح، إنه ستتاح لهنّ زيارة الأطفال. ولم يتحقّق هذا الاحتمال إلا بعد تراجع “داعش” واضطرارها لتسليم الأطفال إلى السلطات الكردية.
واليوم، اضطرت الأمهات، وكثيرات منهنّ كنّ قاصرات عندما اختطفهنّ مقاتلو داعش، لمغادرة أسرهنّ بالسر، وقد لا يعدنَ مرةً أخرى، خوفًا من تعرضّهن للخطر.
إحدى النساء بعدما عادت إليها ابنتها البالغة من العمر 5 سنوات، وقد تركت والدتها المسنّة وراءها، تقول في تقرير الصحيفة المذكورة: “أنا أبكي منذ ثلاثة أيام. أشعر أنّ هذا سيقتل والدتي. هي أيضًا أمّ كانت ستموت من أجلي مثلما أموت من أجل ابنتي”.
في الوقت الحالي ، تختبئ تسع نساء و 12 طفلًا في مكان آمن غير معروف في العراق. وقد وعد منظّمو لمّ الشمل بتأمين لجوء لهم في بلد غربي. وتنتظر 20 أمًّا أخرى لترى كيف تسير الأمور كي تقرّرنَ طريقة التصرّف.
الدبلوماسيّ الأميركي السابق، بيتر غالبريث، تولّى تنسيق عملية لمّ الشمل من خلال اتصالاته السياسية. وقال غالبريث، الذي تربطه علاقات وثيقة بالسلطات الكردية، إنّه قضى أكثر من عام في محاولة الحصول على موافقة لمّ الشمل.
واحدة منهنّ فتحت قلبها لـ”نيويورك تايمز” وتحدّثت عن “صدمة” اعترتها وطفلتها لحظة الاحتضان. الطفلة عمرها سنتان، ولا تعرف أمّها، ولا تفهم أنّ من تحتضنها هي التي أنجبتها، وأنّها نجت من أهوال لا يمكن تصوّرها، وانتظرت طويلًا هذه اللحظة ودفعت كلّ الأثمان السابقة واللاحقة
واعتبر بابا شيخ علي الياس، المرجع الديني الأيزيدي الأعلى، أنّ جلب أطفال إرهابيي داعش إلى سنجار، “من شأنه أن يدمّر المجتمع الأيزيدي. قتلَ آباء هؤلاء الأطفال، آباء غيرهم من الأطفال الناجين. كيف يمكننا قبولهم؟”، وأضاف: “الأطفال يجب أن ترعاهم منظمات الإغاثة في دول أخرى”.
وقال زعيم أيزيدي آخر: “يمكن للعائلات أن تتسامح مع النساء، لكنها لن تتقبّل الأطفال”، متحدثًا عن احتمال تعرّض هؤلاء الأطفال للقتل.
كما ينصّ القانون العراقي على أنّ ابن الأب المسلم مسلم، لذلك لا يمكن اعتبار الأطفال أيزيديين.
واقع الحال، أنّ هؤلاء النساء لم يخترنَ الاختطاف ولا تبعاته، لكن يملكنَ كامل الحقّ لرؤية أطفالهنّ والبقاء معهم سواء كانوا نتاجًا للإكراه أو الحب.
هذا ما تؤكده الناجية الأيزيدية الحائزة على جائزة نوبل للسلام نادية مراد.
إقرأ أيضاً: نساء مقاتلات من ميانمار: ضدّ اغتصاب الجسد والأرض
تتمتع هؤلاء الأمهات بقوّة ومرونة هائلتين، ولذلك فهنّ في عداد “الناجيات”. بعد هذه الجلجلة استحقّينَ التكريم لا النبذ، وكلّ ما تعرّضنَ له من تعذيب لا يسلبهنّ الحقوق الإنسانية.
ليست الأيزيدية الناجية أبخس أمومة من أيّ أمّ أخرى. يستحقَ هذا الملف تحرّك المجتمع الدولي، وزيادة الوعي ضمن بيئية الأيزيديين لاحتضان الناجيات وأولادهنّ، لتطوي هؤلاء الأمهات صفحة الماضي وتضمّدن جراحهنّ بعيدًا عن كوابيسه. عسى أن يبدأ الأطفال والأمهات حياةً جديدة يعِشنَ فيها بكرامة وعدالة، أسوة بكلّ من نجا وأسوة بكل إنسان.
لقراءة النص الأصلي اضغط هنا