كانت الليرة عيشَنا المشترك. وكان الدولار عيشَنا المشترك. أما العيشُ المشترك بين الليرة والدولار فكان وهمًا. ولهذا الوهم اسمان: المصارف، والممانعة.
الاسم الأول للوهم: المصارف، وفي الطليعة منها المصرف المركزي.
والمركزي مصرف ضخم “خاص” بوجه من الوجوه، يفهم دوره في الرأسمالية كانحياز مطلق للرأسماليين، وانحياز للرأسمال نفسه ضد الرأسماليين إذا حصلت الوقيعة بينهما.
فيما المصارف الخاصة لم تعد مستقلة عنه منذ سنوات طويلة، وباتت جزءًا من منظومة الدولة الموسّعة، رأسمالية الدولة الأوليغارشية.
لا الخاصّ خاصًّا ولا العامّ عامًّا، إنّما “دولة للخاصّة”، دولة ضدّ الطبقات الشعبية، إنّما مضخّمة بحوالى خُمْس عدد السكان ما بين الموظفين فيها وعوائلهم.
وهم المصارف عنى أيضًا وهمَ التصرف كما لو أنّ ثبات سعر الصرف سيدوم “إلى الأبد”، ويمكن مع هذه الأبدية أن تستمرّ الدولة في المديونيّة، وفي الاستدانة من أجل خدمة إنفاق مجنون، ومن أجل خدمة الدّيْن، وأن يستمرّ الناس في إقراض المال للدولة، والاستفادة من فوائد عالية خياليّة بلا إنتاج قيمة، لأنّ هذه الفوائد مستقاة ممّا تتكبّده الدولة خدمة للدَّين، وأن يستمر الإنفاق على قطاع عامّ بهذه الضخامة، وبهذا التعطّل، أقلّ مشكلة فيه الفساد الذي ينخره.
لا الخاصّ خاصًّا ولا العامّ عامًّا، إنّما “دولة للخاصّة”، دولة ضدّ الطبقات الشعبية، إنّما مضخّمة بحوالى خُمْس عدد السكان ما بين الموظفين فيها وعوائلهم
والوهم المتداخِل مع كل هذا، هو وهم لبنان المتصدّي للإمبريالية. وهو أساسًا البلد الذي يتعايش فيه النفوذ السوري ثم الإيراني، مع نفوذ الولايات المتحدة والسعودية وفرنسا. لكنّ تعايش النفوذين، تعايش الهراوة والحنفيّة، الذي سمح بتعايش الليرة والدولار بشكل أو بآخر، لم يعد يسمح بذلك اليوم.
فحتّى لو عدلت الإدارة الأميركية الحالية عن تشدّد سابقتها في الوضع اللبناني، يبقى أنّ أحدًا، لا في أميركا ولا في أوروبا ولا في الخليج، ولا في صندوق النقد، سيقبل التدخّل لإغاثة لبنان اقتصاديًّا وماليًّا من دون فصل لبنان عن المحور الذي تقوده إيران.
النتيجة: العيش المشترك بين الليرة والدولار ينهار أكثر فأكثر.
كان لنا عيش مشترك “بصلابة” أن يكون الدولار، والتثبيت الوهميّ لسعره، دعامته. راحت هذه الدعامة.
إقرأ أيضاً: 14 آذار وقد صارت 17 تشرين ثم اختفت
الليرة في وضعها الحالي هي ما بقي لنا من العيش المشترك: أن نواسي بعضنا البعض (أو نفشّ خلقنا وهذه مواساة مكابرة) أفرادًا وجماعاتٍ، بأنّ بلدنا نُكِب ويُذلّ، وأنّ كل أغاني العنفوان والبسالة المضجرة تكشفت في النهاية عن دولة متسوّلة تقفَل بوجهها الأبواب.
إذ يقول لها هذا: “روحي اشتِغْلي”. ويقول لها ذاك: “خللّي السلاح ينفعِك”، ويقول ثالث: “لا تعطي هذا المتسوّل، فهو مفروز من شبكة، رأيته ينزل من باص يوزّع المتسوّلين على النواصي في الصباح، فاذا أعطيته مالًا فأنت تعطي لمافيا وراءه”.
نحن هنا. هل الانهيار يحرّرنا من الأوهام؟
لا.
ليس هناك صدمة كفيلة لوحدها بأن تُخرج المرء من شرنقة وهمية: رأسمالية الدولة الأوليغارشية، التي تتعايش وتعشّش فيها الإمبريالية الأميركية والأنتي إمبريالية الممانِعة، ما زالت كلية الإيمان بقدرتها على الاستمرار.