كانت انتفاضة 17 تشرين 2019، ردًّا سريعًا ومفاجئًا على “ضريبة واتساب”، التي كانت بمثابة الإعلان “الرسمي” عن بدء الأزمة المالية والإقتصادية. أي أنّ هذه الانتفاضة جاءت ردًّا على حدث معيّن محصورِ زمانيًّا، ولم تكن مآلاته معروفة بعد، وبالتالي كان من الممكن التأثير في تطوّراته وتغيير مساراته.
لذلك كانت تلك الانتفاضة فعلًا سياسيًّا بامتياز، لأنّ المشاركين فيها كانوا مؤمنين بقدرتهم على تغيير مجرى الأحداث. هذا الإيمان تبدّد مهما حاولت مجموعات الانتفاضة قول العكس. وهذا الأمر لا علاقة له بطبيعة عمل هذه المجموعات وبسياساتها، ووسائل تعبِئتها للجمهور. بل إنّ العامل الأساسي في ضمور هذا الإيمان، هو أننا انتقلنا من واقع مأزوم لا ينفي إمكانات الحلّ، إلى واقع انهياري سِمَته الرئيسة أنّه ينفي هذه الإمكانات، ما دام الانهيار مفتوحًا وبلا سقف.
الآن انتقلنا إلى مرحلة جديدة، إذ لم يعد في الإمكان التطلّع إلى حلول فعليّة للانهيار، لأنّ الانهيار ليس سوى دليل على انتفاء الحلول للأزمة. بالتالي فإنّ أيّ ردّ فعل سياسي وشعبي على الانهيار، لا يمكنه أن يقدّم تصوّرًا للحلّ، بل جلّ ما يمكنه فعله هو الاعتراض على حالة الانهيار
أي أنّ الفعل السياسي الشعبي كان مرتبطًا آنذاك بإمكانات الحلّ أكثر منه بتبعات الأزمة، على عكس ما هي الحال الآن في ظلّ الانهيار.
لكن في المقابل، فإنّ لحظة تشكيل حكومة حسّان دياب، كانت لحظة انكشاف سياسي للانتفاضة، التي راهنت على أنّ حكومة من “الاختصاصيين” كفيلة بإنتاج الحلّ، فإذا بها تدفع بالأزمة إلى الأمام وبقوّة. وبالتالي فإنّ الانتفاضة أطلقت النار على رجليها عندما وثقت أكثر من اللزوم بإمكان الحلّ؛ وأيّ حلّ؟ ذلك الذي وعدتها به السلطة ذاتها التي سبّبت الأزمة. حينها خسرت الانتفاضة وظَهر ضعفها أمام السلطة، التي لا تَظهر قوّتها إلّا بالقياس إلى ضعف المعارضة.
الآن انتقلنا إلى مرحلة جديدة، إذ لم يعد في الإمكان التطلّع إلى حلول فعليّة للانهيار، لأنّ الانهيار ليس سوى دليل على انتفاء الحلول للأزمة. بالتالي فإنّ أيّ ردّ فعل سياسي وشعبي على الانهيار، لا يمكنه أن يقدّم تصوّرًا للحلّ، بل جلّ ما يمكنه فعله هو الاعتراض على حالة الانهيار. لكنّه اعتراض لا يُترجَم مواجهةً شعبيةً وسياسيّة مع السلطة، بل ينحو باتجاه مطالبتها بإنتاج حلّ للانهيار الذي كانت سياساتها منذ خريف 2019 سبب الوصول إليه.
ولذلك فإنّ قدرة الحركة الاعتراضية على التعبئة ودعوة الناس إليها، محدودةٌ جدًّا، لأنّ الناس باتوا مدركين أنّهم أمام انهيار بلا سقف وبلا حلّ أيضًا. أي أنّهم يشعرون بانعدام الأمل بإمكان الحلّ، على عكس ما كانت عليه حالهم في بدايات الأزمة. وهو ما دلّت عليه تحرّكات الأيام القليلة الماضية، التي اقتصرت على قطع الطرق ولم تتحوّل إلى تحرّك شعبي حقيقي كما حصل في خريف 2019.
من غير المتوقّع أن يُنتج الانهيار المفتوح على أسوأ الاحتمالات، انتفاضةً كتلك التي انتجتها أزمة تشرين 2019. فقبل تشكيل الحكومة التي يُفترض أن تضع سقفًا للانهيار، من الصعب جدًّا توقّع تجدّد الانتفاضة، لأنّ الشرط الأوّل لتجدّدها يكمن في الانتقال من الواقع الانهياري إلى الواقع المأزوم
ذلك كان متوقّعًا وغير مفاجئ، لأنّ أيّ دينامية شعبية وسياسية، يُفترض أن تتحرّك ضمن واقع ثابت إلى حدّ ما، ولو كان هذا الواقع مأزومًا. ففي 17 تشرين 2019، كانت الأزمة تتحرّك ببطء، وكان الناس لا يزالون قادرين على تحمّلها، وبالتالي كان هناك إمكان لتسييس الأزمة كما ردّ الفعل الشعبي عليها، وذلك بعكس الانهيار الحالي الذي تتحوّل ردّ الفعل عليه فوضى وغضب بحت، من دون أيّ أفق سياسي.
إذًا الآن الوضع مختلف تمامًا عمّا كان عليه في خريف 2019، فعندما يكون الانهيار شاملًا وبلا سقف، فإنّه يشلّ أيّ حيوية سياسية شعبية جدّية. وهذه الوظيفة السياسية التي تتوخاها السلطة من الانهيار، أي شلّ أيّ دينامية سياسيّة شعبية معارضة على شاكلة انتفاضة 17 تشرين. وهو ما يفسح في المجال أمام السلطة لإعادة تعويم نفسها، محليًّا وخارجيًّا، بوصفها مصدر الحلّ الوحيد. وليس هذا وحسب، فإنّ أركان السلطة يستغلّون انشغال الناس بدرء مخاطر الانهيار عنهم، لإعادة تدوير نفوذهم في الحكم المتداعي والدولة المفلسة.
هذا كلّه يعزّز اليقين بأنّ الانهيار الكبير الحاصل، لم يكن مصيرًا حتميًّا للأزمة التي وقعت في خريف 2019. بل إنّ الانهيار بلغ هذه العتبات الخطيرة عن سابق تصوّر وتصميم من القوى الحاكمة. وذلك لأنّ انهيارًا كهذا، وحده الكفيل بإفراغ الانتفاضة الشعبية من أيّ مضمون سياسي، فتصبح السلطة المتمثّلة حاليًّا بتحالف حزب الله – التيار الوطني الحر، قادرة على فرض شروطها في اللعبة السياسية، بوصفها الجهة الأقدر لا على إنتاج حلول للأزمة بل على تعطيلها. ذلك لأنّ أيّ سلطة يحصل تشكيك شعبي كبير في شرعيّتها، تسعى بكل الوسائل الممكنة لأن تتحوّل سلطة الأمر الواقع فوق الدستور وفوق الديموقراطية، كما هي حال السلطة الحالية.
إقرأ أيضاً: لبنان في انتظار العاصفة الاقليمية
بالتالي فإنّه من غير المتوقّع أن يُنتج الانهيار المفتوح على أسوأ الاحتمالات، انتفاضةً كتلك التي انتجتها أزمة تشرين 2019. فقبل تشكيل الحكومة التي يُفترض أن تضع سقفًا للانهيار، من الصعب جدًّا توقّع تجدّد الانتفاضة، لأنّ الشرط الأوّل لتجدّدها يكمن في الانتقال من الواقع الانهياري إلى الواقع المأزوم. وإلى حين تشكيل الحكومة، فإنّ غالب الظنّ أنّ كلّ التحرّكات الاعتراضية ستكون إمّا تعبيرًا عن غضب شعبي غير مسيّس، أو عن أجندات سياسيّة غير شعبية.