مرفأ طرابلس: هل تطيح المزايدات الطائفيّة بفرص نهضته الإقليمية؟

مدة القراءة 7 د

خلال الأسابيع الماضية، خرجت إلى الأضواء مبادرات عدة مرتبطة بمرفأ طرابلس والأنشطة الاستثماريّة التي تتمحور حوله، ما يدلّ على اهتمام مستجدّ بوضعه، والفرص التي يمكن أن يحملها تطويره.

فالدمار الذي لحق بمرفأ بيروت وتأخّر عمليّة إعادة إعمار الأجزاء المدمّرة منه، حتّما التفكير ببدائل موقتة لملء هذا الفراغ. لكن يبدو أنّ المبادرات الجديدة المتعلّقة بمرفأ طرابلس ذهبت أبعد من ذلك، لتطرح مشاريع قادرة على إعطائه دورًا إقليميًّا مميّزًا على المدى الطويل، بما يتكامل مع الدور الذي سيلعبه مرفأ بيروت بعد إعادة إعماره.

حتّى اللحظة، يبدو أنّ هذه المبادرات جاءت بدفع وضغط من القطاع الخاص، وهو ما يطرح السؤال عن مدى قدرتها على النجاح في غياب المتابعة الحكوميّة الناشطة، وفي ظل التأزّم النقدي والماليّ الذي يضرب البلاد حاليًّا. أما السيناريو الذي يخشاه أبناء طرابلس اليوم، فهو الإطاحة بهذه المشاريع كليًّا، كما حصل مع مشروع “المنطقة الاقتصاديّة الخاصّة”، الذي جرى تجميد إطلاقه على الرغم من إقرار مراسيمه، بعد أن عمد البعض إلى توريطه في السجالات الطائفيّة المخجلة.

أولى المبادرات كانت إعادة إطلاق “المنظومة الاقتصاديّة من طرابلس الكبرى”، وهو ملف ضغطت من أجله غرفة التجارة والصناعة والزراعة في طرابلس لفترة طويلة، قبل أن تقتنع مؤسسة “إيدال” بالفكرة، وتبادر مؤخرًا إلى تكليف شركة “اي سي اي كونسالتينغ” لإعداد دراسة جدوى كاملة متعلّقة بالمشروع.

خلال الأسابيع الماضية، خرجت إلى الأضواء مبادرات عدة مرتبطة بمرفأ طرابلس والأنشطة الاستثماريّة التي تتمحور حوله، ما يدلّ على اهتمام مستجدّ بوضعه، والفرص التي يمكن أن يحملها تطويره

وفقًا لدراسة الجدوى التي جرى إنجازها منذ أيام، سيقوم المشروع على طول مساحة ساحليّة ممتدة من طرابلس إلى مطار القليعات، ويشمل توسعة المنطقة الاقتصاديّة الخاصة بالمرفأ، وإنشاء حوض جافّ لإصلاح السفن، بالإضافة إلى بناء منشآت نفط وغاز وبتروكيماويات ومراكز للتخزين، وتصنيف مناطق صناعيّة خاصّة. كما يشمل المشروع توسعة المرفأ ومطار القليعات، مع استحداث مشروع سكة حديد لربط أجزاء المشروع بعضها بالبعض الآخر.

هذا المشروع الطموح يقوم على فكرة الشراكة ما بين القطاعين العام والخاصّ، ما يعني أنّ الدولة لن تتكبّد أيّ أكلاف استثماريّة مقابل إنشائه، بل يمكن تغطية التكاليف من قبل الشركات المستثمرة، على أن تتقاسم عوائد استثمارها مع الدولة. وبحسب المعطيات المتوافرة، فقد أبدى العديد من الشركات العالميّة اهتمامه مؤخرًا بالاستثمار في إطار هذا المشروع، ومنها مثلًا، “مجموعة موانيء دبي” التي تدير نحو 58 مرفأً حول العالم. كما بدأت غرفة التجارة والصناعة والزراعة بمراسلة مديريّة التنظيم المدني ووزير الأشغال العامّة لمحاولة وضع المنطقة قيد الدرس.

حتى اللحظة، من المؤكّد أنّ المشروع الكبير سيحتاج انتظار تشكيل الحكومة المقبلة، قبل اتخاذ أيّ خطوة جدّية باتجاه تنفيذه، كما من المستبعد أن يمرّ المشروع من دون أن يكون جزءًا من رزمة مشاريع متكاملة متعلقة بالشراكات بين القطاعين العام والخاص، والتي يفترض أن تعمل عليها الحكومة، ضمن إطار خطتها للخروج من مرحلة الانهيار المالي. لكنّ مجرّد إعداد دراسات الجدوى المتقدمة اليوم، وعرضها مع اتحاد المصارف العربيّة، الذي أبدى استعداده للتعاون والتواصل مع أعضائه للبحث عن فرص تمويليّة في المشروع، يمثّل اليوم خطوة مهمّة باتجاه تتنشيط هذا الملف وتحضيره للفترة المقبلة، خصوصًا إذا توازى هذا التحضير مع اهتمام إقليميّ من قِبل دول وازنة كالإمارات العربيّة المتحدة، كما يشير المتحمّسون لفكرة المشروع.

مع العلم أنّ استقدام الاستثمارات الخارجيّة عبر مشاريع من هذا النوع بالشراكة مع القطاع الخاصّ، ستكون مسألة لا بد منها في أيّ مقاربة سيتم اعتمادها مستقبلًا للنهوض بالوضع المالي، في حين أنّ معدّي المشروع قاموا بعرض الفكرة على سفراء الدول الأجنبيّة ومعظم القيادات السياسية، لتأمين التوافق على المشروع في إطار أيّ خطّة اقتصاديّة يتمّ التوافق عليها.

هذا المشروع الطموح يقوم على فكرة الشراكة ما بين القطاعين العام والخاصّ، ما يعني أنّ الدولة لن تتكبّد أيّ أكلاف استثماريّة مقابل إنشائه، بل يمكن تغطية التكاليف من قبل الشركات المستثمرة، على أن تتقاسم عوائد استثمارها مع الدولة

بمعزل عن هذا المشروع الطموح والطويل الأمد الذي جرى تحريكه مؤخّرًا، ثمّة مبادراتٌ أخرى جرى العمل عليها لتكون قابلةً للتنفيذ على المدى القصير، منها فكرة مشروع تشييد إهراءات لتخزين الحبوب في حرم مرفأ طرابلس. دراسة الجدوى الخاصة بالمشروع أنجزها منذ نحو أسبوع، كل من مدير الإهراءات في مرفأ بيروت أسعد حداد، والمستشار المالي سمير نصر، بتكليف من مؤسسة “إيدال” ومتابعة من غرفة التجارة والصناعة والزراعة. وبالنسبة إلى هذا المشروع بالذات، أبدى اتحاد المصارف العربيّة استعداده للمبادرة لعرض المشروع على المصارف العربية، لتأمين التمويل الخاصّ به بموجب قروض ميسّرة، بالإضافة إلى القيام بالاتصالات اللازمة للحصول على تمويل إضافي من البنك الدولي ومنظمة التمويل الدوليّة. علمًا أنّ المشروع يلحظ إقامة الإهراءات على مساحة واسعة تكفي لتخزين ما يقارب الـ200 ألف طن من الحبوب.

يرى رئيس مجلس إدارة مؤسسة “ايدال” الدكتور مازن سويد أنّ اهتمام المؤسسة بدراستي الجدوى المتعلّقة بالإهراءات والمنظومة الإقتصاديّة ينبع من وجود مميّزات تنافسيّة كبيرة تسمح لمرفأ طرابلس بلعب دور إقليمي مميّز على مستوى المنطقة، وهذه مسألة يجمع عليها معظم الخبراء.

ويشير سويد في حديث لـ”أساس”، إلى أنّ هدف دراسات الجدوى هذه ليس التأسيس لمشاريع تملأ الفراغ الناتج عن انفجار مرفأ بيروت بشكل ظرفي، بل فتح المجال أمام مشاريع إستراتيجيّة على المدى الطويل، تسمح بطوير مرفأ طرابلس للعب أدوار تتكامل مع الأدوار التي يلعبها مرفأ بيروت. وهنا يدرك سويد أنّ الظروف الناتجة عن الانهيار المالي الحالي قد لا تسمح بإطلاق بعض هذه الأفكار اليوم، لكنّ دراسات الجدوى تسمح بالتحضير لدخول هذه الأفكار حيّز التنفيذ فور توفّر الظروف المناسبة.

إقرأ أيضاً: مرفأ طرابلس: إدارة الجمارك بدأت العرقلة

على هامش كل دراسات الجدوى والمشاريع التي ما تزال على الورق، ثمّة مبادرات دخلت حيّز التنفيذ فعلًا خلال الفترة الماضية، منها قرار شركة CMA CGM اعتماد مرفأ بيروت كمحطة أساسيّة في شرق البحر المتوسّط. علمًا أنّ الشركة هي شريك في إدارة محطة الحاويات في المرفأ نفسه. هذا القرار يعني عمليًّا زيادة المعدل الشهري لسفن الحاويات التي تؤمّ مرفأ طرابلس من قِبل الشركة، من نحو 12 سفينة شهريًّا إلى نحو 22 سفينة. كما يعني وضع المرفأ على خطّ بحري يمتدّ من ميناء جبل علي في الإمارات، ويصل إلى مرفأ مرسين في تركيا، مرورًا بموانىء عديدة في كل من السعوديّة وقطر ومصر. أما التطوّر الأهم الذي نتج عن قرار الشركة، فلا يتعلّق فقط بعدد البواخر التي تمر بمرفأ طرابلس، بل بحجمها وسَعتها، وبوضع المرفأ على خريطة الملاحة الدوليّة كمرفأ محوريّ إقليمي. ومن هنا يمكن فهم التطوّر البارز الذي حصل في الفترة الأخيرة، المتمثّل ببواخر الحاويات الكبيرة التي بدأت تؤمّ مرفأ طرابلس منذ أن اتّخذت شركة CMA CGM قرارها الأخير.

لا شك أنّ مرفأ طرابلس يمتلك أساسًا، مميزات استراتيجيّة تسمح له بلعب دور أهمّ بكثير من الأدوار التي لعبها طوال الفترة الماضية، ومنها قربه من الحدود السوريّة وعمق المياه فيه، والمساحات المتاحة للاستثمار في محيطه. وبعد ضغط القطاع الخاص في طرابلس لإنجاز دراسات الجدوى والتصميمات، بالتنسيق مع شركة “إيدال”، وبعد المؤتمرات واللقاءات التي جرى عقدها مع الشركات والأطراف والدول المهتمة بالاستثمار في هذه المشاريع وتمويلها، لم يبقَ سوى وضع طرابلس ضمن أولويات الحكومة المقبلة، لتضعها على خريطة مشاريعها لاحقًا.

مواضيع ذات صلة

هذه هي الإصلاحات المطلوبة في القطاع المصرفيّ (2/2)

مع تعمّق الأزمة اللبنانية، يصبح من الضروري تحليل أوجه القصور في أداء المؤسّسات المصرفية والمالية، وطرح إصلاحات جذرية من شأنها استعادة الثقة المفقودة بين المصارف…

لا نهوض للاقتصاد… قبل إصلاح القطاع المصرفيّ (1/2)

لبنان، الذي كان يوماً يُعرف بأنّه “سويسرا الشرق” بفضل قطاعه المصرفي المتين واقتصاده الديناميكي، يعيش اليوم واحدة من أخطر الأزمات النقدية والاقتصادية في تاريخه. هذه…

مجموعة الـ20: قيود تمنع مواءمة المصالح

اختتمت أعمال قمّة مجموعة العشرين التي عقدت في ريو دي جانيرو يومي 18 و19 تشرين الثاني 2024، فيما يشهد العالم استقطاباً سياسياً متزايداً وعدم استقرار…

آثار النّزوح بالأرقام: كارثة بشريّة واقتصاديّة

لم تتسبّب الهجمات الإسرائيلية المستمرّة على لبنان في إلحاق أضرار مادّية واقتصادية مدمّرة فحسب، بل تسبّبت أيضاً في واحدة من أشدّ أزمات النزوح في تاريخ…