استأنف التيار الوطني الحرّ حملته “الإلكترونية” لاستعادة الأموال المحوّلة إلى الخارج، بالتزامن مع انتهاء المُهلة المعطاة للمصارف، بزيادة رأسمالها واستعادة جزءٍ من الأموال المحوّلة الى الخارج بدءًا من العام 2017.
التحرّك العونيّ يعكس إصرارًا من جانب رئيس الجمهورية ميشال عون والتيار، بإبقاء هذا الملفّ من ضمن الأولويات على الطاولة، “والمضيّ به حتى ما بعد نهاية العهد”، وفق مصدر نيابي في “تكتل لبنان القوي”. وهو يتزامن مع انتهاء المهلة الممنوحة للمصارف، بتنفيذ سلسلة تعميمات من ضمنها ملفّ الأموال المحوّلة إلى الخارج.
التدقيق الجنائي واستعادة الأموال باتا عنوانًا للمواجهة الكبرى مع “رموز النظام”، بتأكيد قريبين من رئيس الجمهورية. هؤلاء لا يتوانَوْن عن القول: “لا أحد معنا في هذه المعركة حتى حزب الله، وهناك تواطوء ضمن منظومة متكاملة سياسية ومالية لمنع هذا الأمر، وإلّا فما الذي يفسّر التقاعس عن إقرار قوانين “الكابيتال كونترول” واستعادة الأموال المنهوبة والمحوّلة، وقانون كشف حسابات وأملاك من تولّوا الخدمة العامة، وجميعها موجودة اليوم في مجلس النواب.
توجّهٌ في السياسة واتهامات مباشرة قد لا تغيّر كثيرًا في “المُنتظر” من هذا الإجراء، خصوصًا لجهة إلزام شبكة النافذين في عالم المصارف، الذين يمسك بعضهم بـ”رقاب” بعض السياسيين، بالامتثال للمطلوب منهم.
التحرّك العونيّ يعكس إصرارًا من جانب رئيس الجمهورية ميشال عون والتيار، بإبقاء هذا الملفّ من ضمن الأولويات على الطاولة، “والمضيّ به حتى ما بعد نهاية العهد”
هؤلاء، وهُم من فئة مدراء المصارف وكبار المساهمين ورؤساء مجالس إدارة، والأشخاص المعرّضين سياسيًّا Politically exposed persons (PEPs)، “يحثّهم” التعميم رقم 154 الصادر في 27 آب 2020 على إعادة مبلغ 30% من قيمة الأموال المحوّلة منذ أوّل تموز 2017، بدلًا من 15%. ولا تفسير مصرفيًّا وقانونيًّا وأخلاقيًّا لنسبة الـ30%، ولِمَ لا تكون 40 أو 50% مثلًا.
قد تكون أكبر جريمة أخلاقيّة وإنسانيّة عرفها لبنان في تاريخه، هي وقوف اللبنانيين طوابير أمام المصارف بعد ثورة 17 تشرين، لسحب مئة أو مئتي دولار، أو لتحويل أموال إلى أبنائهم في الخارج بالقطّارة (لاحقًا توقّف التحويل نهائيًّا) فيما رموز المنظومة الفاسدة وكبار النافذين والمساهمين وأصحاب ومدراء المصارف، كانوا يحوّلون ملايينهم وملياراتهم إلى الخارج بكبسة زر… ثم “يسحبون” ما يشتهون من “فريش دولار” من حساباتهم في لبنان، بتسهيل من مدراء المصارف، ويذهبون بها إلى السوق السوداء لـ”يصرّفونها” على سعرف الصرف العالي بالليرة اللبنانية. ثم يزاركون المُعدم والفقير، ومن لا يزال يقبض راتبه باللبناني على الـ1500، على محطات البنزين والسوبر ماركت، لشراء الموادّ المدعومة وتلك التي يرفض “كبار القوم” التنازل عن شرائها مهما بلغت حدّة الأزمة، ومهما كان ثمنها.
في الشكل وفي القانون لا يتوقف الأمر عند صيغة “الحثّ” التي اعتمدها مصرف لبنان في دعوة من حوّل أمواله للخارج، والتي لا مفاعيل قانونية لها.
يقول المحامي عماد الخازن الخبير في الشؤون المصرفية: “لا نصّ قانونيًّا يُلزم بإعادة الأموال، باستثناء التهديد باحتمال اللجوء إلى قانون مكافحة تبييض الأموال، وتمويل الإرهاب، لمحاسبة غير المتعاونين، في حال ثبوت أنّ مصدر أموالهم هو إحدى الجرائم التي نصّ عليها القانون المذكور. وحتى لو تمّ إقرار قانون صريح بهذا المعنى، فيشكل ذلك مخالفةً دستورية للفقرة “و” من مقدمة الدستور والتي تقول إنّ “النظام الاقتصادي حر يكفل المبادرة الفردية والملكية الخاصة”، والمادة 15 منه، مع التسليم بأنّه في حال صدور هكذا قانون، قد يتردّد النواب في الطعن بدستوريته لعدم شعبوية الطعن به، لذلك سيعرقل البعض إصداره من الأساس”.
في الشكل وفي القانون لا يتوقف الأمر عند صيغة “الحثّ” التي اعتمدها مصرف لبنان في دعوة من حوّل أمواله للخارج، والتي لا مفاعيل قانونية لها
ووفق مصادر مصرفية: “لا رقم نهائيًّا بعد حول قيمة الأموال المُستردّة من الخارج، وبالتالي لا قرار واضحًا في شأن تعاطي الهيئات الرقابية من المجلس المركزي، إلى لجنة الرقابة على المصارف، وهيئة التحقيق الخاصة، والهيئة المصرفية العليا، مع المتخلّفين عن الالتزام بالتعميم الذي عمّمته المصارف بدورها على المودعين لديها”.
ويوضح الخازن: “هناك توجّس كبير لدى غالبية المودعين على “مصير” أموالهم التي حُوّلت تحت سقف القانون، وهي “آمنة” اليوم حيث هي في المصارف بالخارج، خصوصًا من جانب أولئك الذين لا شبهة عليهم. وهناك علامات استفهام يطرحونها حول الضمانة التي ستعطى لهم، والخسارة التي ستلحق حتمًا بقيمة هذه المبالغ حين تحطّ مجددًا في المصارف اللبنانية، في ظلّ مناخ من الفوضى على المستوى السياسي والأمني والاجتماعي وعدم وجود حكومة”.
وأكّد الخازن أنّه “من دون عودة الثقة والاستقرار، لن يكون هناك نتائج فعّالة ومجدية لأيّ إجراءات، والدليل أنّ نسبة الأموال التي حُوّلت إلى لبنان في الأشهر الماضية، لم تتعدَّ بحسب المعلومات نسبة الـ 2%، بخلاف توقعات مصرف لبنان بما في ذلك المجموعة المطلوب منها إعادة 30% من ودائعها في الخارج”.
لا أحد يفترض اليوم أنّ رياض سلامة سيفتح معركة قضائية بوجه المصارف غير الملتزمة، حتّى تلك التي تواطأت على تهريب الأموال بعد 17 تشرين، وأسهمت في أدائها إلى الدفع السريع باتجاه الانهيار، ومن عناوينه الأخطر إفلاس المصارف لا إفلاس أصحابها.
هناك توجّس كبير لدى غالبية المودعين على “مصير” أموالهم التي حُوّلت تحت سقف القانون، وهي “آمنة” اليوم حيث هي في المصارف بالخارج، خصوصًا من جانب أولئك الذين لا شبهة عليهم. وهناك علامات استفهام يطرحونها حول الضمانة التي ستعطى لهم
ولا يمكن بالتالي تخيّل سلامة يقاضي مصرفًا أو مودعًا والادّعاء عليه استنادًا إلى قانون مكافحة تبييض الأموال وتمويل الإرهاب، وفقًا لما نصّ عليه التعميم 154 في شأن “غير المتعاونين”. المُرتكبون تجدر محاسبتهم وسحب ما راكموه من ثروات بغير وجه حقّ. لكنّ مسار المحاسبة حتّى الآن يبدو ضربًا من الخيال.
ويقول معنيون بملفّ استعادة الأموال المحوّلة: “المودعون “العاديون” من أصحاب الرساميل الضخمة لن يقدموا على إعادة ما حوّلوه، لأن لا ثقة لديهم بأنّ المصرف لن يبدّد أموالهم مجددًا. و”محوّلو” الأموال من الفئة “أ” التي طالتهم شريحة الـ30%، خصوصًا جماعة الـ PEPs، سيفعلون أيّ شيء لضمان التهرّب من هذا الالتزام “الأخلاقي والوطني” قبل أيّ شيء آخر، على رغم أنّهم مسؤولون مباشرة عن انهيار القطاع المصرفي وتبخّر الودائع. ويمكن التسليم بأنّ الفترة التي أُعطيت لهؤلاء من آب 2020 حتّى نهاية شباط 2021، هي غير كافية أصلًا لإتمام معاملات شراء عقار في الخارج، فكيف بإعادة ما يربو إلى أربعة مليارات دولار وَعَد حاكم مصرف لبنان بأنّها ستعود إلى المصارف اللبنانية سالمة.
إقرأ أيضاً: مَنْ يعرقل التدقيق الجنائي؟ (1)
لكنّ مصادر في مصرف لبنان، تجزم بأنّ متابعة هذا الملفّ ستكون جدّية، وهي تتزامن مع ورشة شاملة في إعادة هيكلة القطاع المصرفي “برعاية” مصرف لبنان.
تضيف المصادر: “خطة ترشيد الدعم وتحديد متطلّبات الحكومة والوزارات المعنية وفق أولويات محدّدة، لا تحمّل مصرف لبنان عبء المفاضلة بين طلبات الوزارات ورفض بعضها. هما أمران مطلوبان اليوم بإلحاح من الحكومة، بالتزامن مع الورشة المفتوحة في دراسة وبتّ ملفات المصارف”، مشيرة إلى “رزمة استحقاقات متراصّة تفترض التزامن في الالتزام بتنفيذها، وبالطبع وجود حكومة جديدة تحظى بالغطاء الدولي هو أمر أساسي لإتمامها”.
وتؤكّد المصادر أنّ “مصرف لبنان سيباشر خطة لإطلاق القطاع المصرفي وإعادة هيكلته، بعد انتهاء المهلة الممنوحة للمصارف لتنفيذ التزاماتها في 28 شباط. وهذا الأمر يعني حكمًا بعدها إطلاق ورشة الاقتصاد التي لن تؤدي مبتغاها من دون وجود حلّ سياسي للأزمة القائمة”.