هل يتكرّر التاريخ فتسقط إيران في لبنان، كما سقطت الدولة العثمانية فيه، وبه؟
سؤال حاول الكاتب جهاد الزين طرحه والإجابة عنه، بإشارات مثيرة ولمّاحة، في جريدة النهار في 20 الشهر الجاري. وهو سؤال من الوزن الجيوبوليتيكي الثقيل، ولا يمكن اختصاره في كُليمات. بل من المؤكد أنّه موضوع دراسات تاريخية معمّقة، وغير قابلة للنشر إن وُجدت، لأنّها تدخل حتمًا في الحسابات الاستراتيجية المعقّدة. وهو إلى ذلك، طرح يحتاج إلى تأمّل وتدقيق. فهل النخبة المسيحية اللبنانية كانت سببًا مباشرًاً أو مساندًا في انهيار الدولة العثمانية بالترافق مع الضغط الخارجي؟ وهل يمكن أن يكون لها دور مشابه افتراضيًّا، بإزاء إيران؟ وهل من الجائز عقد المقارنة بأيّ وجه من الوجوه مع حالة إيران ووضعها المهيمن في لبنان الآن، عبر الحزب؟
حزب الله في لبنان ليس امتدادًا عضويًّا للثورة الإيرانية. بل هو أكثر من ذلك. كانت “إيران الثورة” في لبنان قبل ظهور الحزب. والحزب هو مجرّد إعلان عن حالة
في البدء، لا بدّ من تثبيت بعض المعطيات، حتى ينبني التحليل على أرض صلبة.
إنّ حزب الله في لبنان ليس امتدادًا عضويًّا للثورة الإيرانية. بل هو أكثر من ذلك. كانت “إيران الثورة” في لبنان قبل ظهور الحزب. والحزب هو مجرّد إعلان عن حالة. وعبارة “الحالة الإسلامية”، كما كانت تتردّد على نحوٍ دائم في أدبيات الثمانينيات وما بعدها، هي التي تدلّ دائمًا على وحدة الحال، بين الثورة الإسلامية في إيران، والثورة الإسلامية في لبنان، في تلك الحِقبة المبكّرة. لا توجد علاقة مصلحة فقط بين شيعة ولاية الفقيه في إيران، وشيعة الحزب في لبنان، بل رؤية عقديّة جامعة. وهذا الواقع المجرّد، يطرح إشكاليات جمّة، أمام من يدعو إلى لبننة الحزب، أو دمجه بالدولة اللبنانية وتسليم سلاحه، أو فصله عن سياقات طهران وامتداداتها في المنطقة، وعن صراعاتها مع بعض الدول العربية، ومع رأس العالم الغربي، الولايات المتحدة الأميركية.
عقيدة الانتظار
ماذا تعني الرؤية العقدية الجامعة بين إيران والحزب؟ إنها تعني بالدرجة الأولى، أنّ الغاية من كلّ الحراك السياسي والعسكري والأمني والدعوي والإعلامي، سواء في إيران أو لبنان، هو “التمهيد لظهور الإمام الثاني عشر في آخر الزمان”. وفي أثناء ذلك، هناك رباط وحمل سلاح، لنصرته حين يعود، فينشر العدل ويقمع الظلم. وبما أنّ موعد الظهور غير معلوم، مع ترقّب العلامات والحوادث، لا بدّ من الإعداد والانتظار. هنا، وعليه، ينبغي تحليل المشهد والموقف.
هذه هي الغاية، أما وسائل تحقيقها، فهي متعدّدة. وبما أنّ مفهوم القوة في زماننا، لم يعد محتكَرًا بالسلاح واستعماله، أو ما يُعرف الآن بالقوة الخشنة، ينبغي الالتفات جيدًا إلى القوة الناعمة، وسُبُل انتهاجها، وهي التي تعني التأثير في الآخرين، وتحقيق الأهداف دون قتال. ومن مظاهرها في حالة إيران مثلًا، الوهج الأيديولوجي (إيران وثورة المستضعَفين فيها) ونشر المذهب (بكل الوسائل الممكنة) في كلّ مكان، ولا سيما في المناطق ذات المعنى الديني الشيعي المهدوي، أي التي ستكون ساحة الصراع في آخر الزمان بحسب الروايات المنقولة، ونصرة فلسطين (بوصفها القضية المركزية في العالم العربي والإسلامي). وهذه النقطة الأخيرة، هي الأهم عمليًّا، والأكثر إيغالًا في الوجدان العام، نظرياً على العموم.
فالثورة في إيران، لم تعد جذّابة كما في البدايات. ومع كرّ الأيام وتوالي الأحداث، يُطرح السؤال: أين الدور المرتجى لإيران في نصرة المسلمين المستضعفين، لا سيما حيث تتعرّض الأقليات المسلمة الآن إلى الاضطهاد الشديد؟ ما موقفها السياسي المبدئي في أدنى حدّ؟
الخوف من تزعزع البيئة الشيعية المؤيدة لإيران في لبنان، من جرّاء الحراك الشعبي في 17 تشرين الأول 2019، لا يقلّ حساسية ولا خطورة. فضلاً عن المواجهة المستحدثة مع بكركي بما تمثل في الداخل اللبناني وفي الخارج
على العكس من ذلك، تتحالف إيران، مع أنظمة قمعية، وسجلّها حافل بجرائم الإبادة المنهجية، ضدّ المسلمين خاصة. أما نشر المذهب، فقد تحوّل من نطاق الدعوة السلسة نسبيًّا من خلال تبنّي فكرة الوحدة الإسلامية، وعقد المؤتمرات الجامعة دوريًّا، إلى القسر المعنوي والمادي المترافق مع الاحتلال العسكري، كما يحدث في المناطق المفتوحة في سوريا حاليًّا، أي أصبح أقرب إلى استعمال القوة الخشنة، مع ما يثير ذلك من اضطرابات واعتراضات متصاعدة في كلّ مكان. ولم يبقَ في الجعبة كشعار سوى نصرة فلسطين، وقتال إسرائيل.
دور الميليشيات غير الإيرانية
هل تستنزف إيران العرب الموالين لها، من خلال تحميلهم أعباء التوسع خارج الحدود، والنزول من الهضبة إلى السهول المنفتحة أمامها غربًا من العراق إلى الساحل السوري، واتصالًا بلبنان حيث النقطة المركزية لإيران في العالم العربي؟
فكرة الاستنزاف هنا، لا معنى لها، في الجانب الأيديولوجي أو العسكري. أما الفائدة المتوخّاة من تجنيد غير الإيرانيين في النزاعات، فهي عظيمة القدر. من حيث الشكل، فإنّ تأليف أُمميّة شيعيّة لمواجهة أُمميّة سنيّة، قوامها تنظيم القاعدة، ثم تنظيم داعش، في سوريا على وجه الخصوص، يؤكد نجاعة هذا الأسلوب الجديد. وقد لوّح به السيّد نصر الله، في أيّ صراع آخر مع إسرائيل، للدلالة على قيمته العسكرية، بهدف تجنّب استنزاف قدرات الحزب، لو خاض الحرب وحده. هناك احتياط بشري جاهز لتقديم العون. أما من الناحية الاستراتيجية، فإنّ الاستعانة بالفصائل الموالية لإيران خارج الحدود مما يزوّدها بأوراق قوّة في أيّ نزاع أو تفاوض. ومن الناحية الجيوسياسية، فإنّ إيران ذات الطبيعة الجبلية، سهل الدفاع عنها عسكريًّا، وصعب الانطلاق منها عسكريًّا للتوسّع خارجها، ومنفذها الوحيد هو العراق غربًا، كما يقول التقرير المهمّ لمؤسسة ستراتفور Stratfor الأميركية عام 2008 THE GEOPOLITICS OF IRAN: Holding the Center of a Mountain Fortress. فإيران قلعة جبلية، والطريقة الوحيدة للتوسّع في العراق وخارجه، هو العثور على متعاونين معها، وهو ما يُترجم حرفيًّا بفصائل الحشد الشعبي، وغيرها. ومن أجل ذلك، فإنّ درجة العداء المتصاعدة لإيران في أوساط الشيعة الثائرين على النظام وعلى فصائل الحشد في العراق، هي من الأمور البالغة الحساسية لطهران ومشاريعها. وإنّ الخوف من تزعزع البيئة الشيعية المؤيدة لإيران في لبنان، من جرّاء الحراك الشعبي في 17 تشرين الأول 2019، لا يقلّ حساسية ولا خطورة. فضلاً عن المواجهة المستحدثة مع بكركي بما تمثل في الداخل اللبناني وفي الخارج.
كسر معادلة ابن خلدون
فهل استخدام ميليشيات غير إيرانية يطيل عمر النظام في طهران أم يقصّره؟
بحسب نظرية ابن خلدون، تصعد الدول وتهبط، تقوم وتندثر، وفق أطوار خمسة، بمقدار قوة العصبيّة التي تتّسم بها الدولة. وفي الحالة الإيرانية، يمكن اعتبار القومية الفارسية، وفكرة ولاية الفقيه، نقاط قوّة للنظام الحالي. فالدين، كما يقول ابن خلدون، يزيد من قوة العصبية إذا تزاوج معها. وإيران الحالية، مرّت بطورين حتى الآن، وتجاوزتهما بسرعة. فلم تكد الثورة تنتصر، حتى تخلّت عن بعض مؤسّسيها، واستمرّ الإقصاء تباعًا، حتى كانت الحركة الخضراء عام 2009، احتجاجًا على تزوير الانتخابات الرئاسية، حين تخلّت الدولة عن بعض رموز التيار الإصلاحي، وهم كانوا من العصب الثوري ابتداءً.
والاسترخاء هو عدو أيّ دولة. في المقابل، فإنّ الاستنفار الأيديولوجي ذا الطابع المذهبي باتجاه الخارج، ولغايات عقدية واضحة، هو من وسائل الاستمرار، وإطالة عمر النظام، وبما يكسر قاعدة ابن خلدون، كما كسرتها الدولة العثمانية من قبل.
يقول المؤرخ البريطاني الشهير أرنولد توينبي: إنّ العثمانيين سيطروا على شعوب أكثر منهم، بنظام العبيد الذي استحدثوه، أو “نظام الدوشيرمة” dev?irme. فكانوا يأخذون أطفال الأسر المسيحية، فيربّونهم على أنّهم عبيد السلطان، ويؤلّفون الجيش الجديد “ينيجاري” أو الانكشارية. ولعلّ هذا ما جعل الدولة العثمانية تعمّر أكثر من ستة قرون، بالإضافة إلى عامل خارجي لا يقلّ أهمية. فهناك الصراع الأوروبي على الدولة العثمانية، والخلاف على تقاسمها، منعا سقوطها. وبالقدر نفسه، كان مهمّاً موقعها الجغرافي بين دول متنافسة، وعلى تقاطع الطرق بين الشرق والغرب.
الاستنفار الأيديولوجي ذا الطابع المذهبي باتجاه الخارج، ولغايات عقدية واضحة، هو من وسائل الاستمرار، وإطالة عمر النظام، وبما يكسر قاعدة ابن خلدون، كما كسرتها الدولة العثمانية من قبل
حزب طليعي
ليس حزب الله في لبنان درّة التاج في المشروع الإيراني. هو الطليعة واقعًا، و”الوجه الفاعل” لهذا المشروع، كما هو مفترض. وبالمقارنة، تبدو سياسات الحزب وتحالفاته أكثر مبدئيّة من سياسات إيران، ومن تحالفاتها. بتعبير آخر، ما يجوز لإيران من سياسات براغماتية، بحيث تتحالف مع أعدائها بالسهولة نفسها التي تتصارع بها معهم، لا يجوز للحزب أن يقوم بها. فهو النواة الصلبة. ومن جهة أخرى، تقوم قوّته الناعمة على قوّته الخشنة الرادعة بإزاء إسرائيل وفي الداخل اللبناني كما حدث في مناسباتٍ عدّة. بالطبع، فقد الحزب جزءًا كبيرًا من هذا الرصيد المعنوي أو الرمزي، حين “اضطر” لتأمين الجبهة الشرقية والقتال مباشرةً في سوريا. وطريق القدس بات يمرّ من دمشق تارة، ومن صنعاء تارةً أخرى.
وقد حاول الحزب تجنّب الإحراج لحظة تحالف إيران مع الولايات المتحدة عام 2003 ضدّ صدام حسين، فدعا السيّد نصر الله في كلمة مشهورة لتشكيل مقاومة شيعية ضدّ الاحتلال في العراق، ما أثار سخط العراقيين الشيعة آنذاك. لكنّه نجح أخيرًا في تشكيل فصائل مقاومة شيعيّة، لسدّ الفراغ الذي ملأته مقاومة سنيّة فعّالة ومنافسة بقوّة على الصعيدين المعنوي والرمزي، في وجدان العالم العربي والإسلامي. وما أنقذه نسبيًّا، ومنحه ذريعة التدخل في العراق وسوريا لاحقًا، هو ظهور تنظيم داعش، الذي تخطّى بوحشيته كلّ الخطوط.
بعبارة أخرى، هل يمكن القول إنّ لبنان هو نقطة قوّة إيران، ومركز ثقلها المعنوي في العالم العربي، الذي هو قلب العالم الإسلامي؟ وفي المقابل، هل استهداف الحزب وإضعافه في لبنان، من خلال تفاصيل غير تقليدية، مثل فشل نموذج الإدارة والحكم والتحكّم، هو إنهاك لإيران نفسها؟ واستطرادًا، هل يمكن القول إنّ حزب الله يغرق في المستنقع اللبناني، وإنّ لبنان بات ساحة استنزاف له سياسيًّا ورمزيًّا، كما جُعلت سوريا له من قبل؟
إقرأ أيضاً: مشكلات “منظومة” الحزب وخطرها على النظام
الحزب أشدّ تمسكًا بمبادئ الثورة الإيرانية من كثير من الإيرانيين، كما كان حال مؤيدي جمال عبد الناصر وصدام حسين والقذافي، خارج بلدانهم. لكنّ الفرق شاسع، بينه ومؤيدي النُظم العربية السابقة، لأنّه يوجد عسكرياً في أكثر من بلد، ويتحمّل دورًا أكبر بكثير. وفي المقابل، هو يرفض التصرّف كدولة، أو السيطرة رسميًّا على دولة، لأنّ ذلك يقيّد حركته، ويعرّضه لخطر أكبر. ومع انهيار لبنان، لم يعد هذا المسار ممكنًا، ولا التفرّج على حركة التاريخ من دون أيّ فعل!