مشكلات “منظومة” الحزب وخطرها على النظام

مدة القراءة 7 د

ليس الخوف على مصير النظام السياسي بأشدّ قلقاً، من الخوف على انهيار المنظومة التي يحكمها الحزب، بعد أن صارت المنظومة القائمة فعلاً مكان النظام. فالنظام مهما ضعف وترهّل، يمكن تجديد حياته، بهياكله القانونية والإدارية الشرعية القائمة، إن وُجد الوفاق والاتفاق. أما المنظومة الحاكمة، والقائمة على تفاهمات ثنائية معلنة ومستترة، تتجاوز الوفاق الوطني العام، فهي التي تمنح النظام استمرارية ظاهرية من جهة، وتحصّنه من السقوط الفعلي من جهة أخرى. وهي تتعرّض حالياً لتوتّرات، من مظاهرها عدم القدرة على الحكم، ولو بحكومة من توقيعها. وأسارع إلى القول، إنّ انهيار المنظومة أو تفكّكها الآن، لن يعني إطلاقاً انتعاش الأصل عقب سقوط البديل، بل سقوط النظام هو أقرب، ولا بديل في الأفق إلا الفوضى، مع فقدان قواعد تحكم الانهيار، فضلاً عن أنّ اتفاق الطائف بات وجهة نظر، كما الدستور. فما نعني بالمنظومة؟

إنّها كناية عن تحالفات الحزب والمعادلات المتباينة التي تحكمها، وبقدر ما تبدو متينة وصلدة في الظاهر، هي متحرّكة ومتماوجة وقلقة ومضطربة في الباطن. ومصدر السيولة في داخل هذه المنظومة أو المصفوفة، هو التباين الشديد بين مكوّناتها، إن لم تكن هي التناقضات الجلّية أحياناً في المنطلق، والمبدأ، والفكر، والسلوك، والمرجعية، والغايات.

فما هو وجه الشبه مثلاً في العلاقة بين حليف حركي إسلامي سني كحركة التوحيد الإسلامي والحزب، وعلاقة حليف حزبي شيوعي ماركسي أو فصيل يساري فوضوي، أو سمّه ما شئت بحزب الله؟ ثم كيف تتناغم المنظومة داخلياً، وثمة مكان لحليف ماركسي لينيني أو ماوي أو حتى غورباتشيفي إصلاحي إلى جانب حليف يميني قومي علماني أو طائفي، هو الحزب السوري القومي الاجتماعي أو التيار الوطني الحر؟ ما الذي يجمع طيفاً قومياً ناصرياً معادياً للحركات الإسلامية السياسية تاريخياً مع الحزب الديني؟ وما الذي يجمع “شيعياً” ملحداً بأمة حزب الله؟ بل ماذا يجمع بين الحزب النخبوي و”الحركة” ذات البُعد الشعبي على نطاق أوسع بكثير؟ كيف تمكّن الحزب من احتواء المجال العام الشيعي بغالبيته العظمى، وكيف أوجد المعادلة الحرجة بين العامة والخاصة في هذه البيئة، حتى يبدو أحياناً أنّ عوام الشيعة أسبق من خاصتهم ومن حزبيّيهم نحو الاستقطاب العدائي بإزاء كلّ مختلف أو معارِض، فلا تعلم مَنْ يدفع مَنْ إلى مواقف أشدّ وأصلب.

مصدر السيولة في داخل هذه المنظومة أو المصفوفة، هو التباين الشديد بين مكوّناتها، إن لم تكن هي التناقضات الجلّية أحياناً في المنطلق، والمبدأ، والفكر، والسلوك، والمرجعية، والغايات

أما التحدّي الأكبر والذي تجاوزه الحزب بنجاح ملحوظ، فهو عندما استدخل إلى مصفوفته التحالفية المعقّدة من دون تفجيرها كلها، تفاهماً سياسياً استراتيجياً في كنيسة مار مخايل عام 2006 مع تيار مسيحي محافظ ورجعي، يريد استرداد النظام البائد ما قبل اتفاق الطائف، مع ما يعني ذلك صراحة، من الانقلاب على نضالات وتضحيات هائلة لعدد من الأحزاب والحركات المتحالفة مع الحزب منذ سنوات قبل ذلك، والمغامرة بنسف الوفاق الوطني من أساسه، والعودة إلى حقبة الاستقطاب الطائفي بل المذهبي الذي سبق الحرب الأهلية المديدة، وكان في أتونها؟

ما من شك أنّ الحزب اضطرّ إلى ذلك، في أثناء الحقبة المتوترة طائفياً بسبب اغتيال الرئيس رفيق الحريري عام 2005، وتمكّن من تمرير هذه الخطوة المفاجئة والخطيرة على مسار “المصفوفة” ككل. لكن ما شك أيضاً أنّ معادلاتها دقيقة ومربوطة بإحكام، وتتعرّض لاهتزازات شديدة لدى حدوث أيّ تغيّر طفيف في عناصرها كمّياً أو نوعياً. بالطبع، إنّ تحالف الأشباه والنظائر أكثر أماناً ودواماً من تحالف الأضداد والنقائض، فيما تحمل تحالفات المختلفين إلى هذا القدر أو ذاك، احتمالات التفجّر كما الصمود بالقدر نفسه، لكن بشرط وحيد هو أن تستمر تقاطعات المصالح بين الحلفاء مهما حدثت من تغيّرات أو تبدّلت من أولويات لهذا الفريق أو ذاك. وهذه أشبه بالمقامرة على احتمالات المصادفة، ولها مخاطرها الكبرى، وبانت في ثورة تشرين خاصة.

اللافت أنّ مكوّنات هذه المصفوفة بالإجمال، ليست متصالحة مع النظام السياسي الراهن، وتطالب بتغييره، أو تتمنّى ذلك. ويظهر هذا من خلال إدانة نظام الطائف، أو طرح نظام آخر ينسف توازنات النظام المأزوم أو المأسور الحالي. وهذه هي النقطة المحورية التي يتفق عليها الجميع.

ولكلّ مكوّن من مكوّنات “المصفوفة”، وجه صلة مع الحزب. وكلّ صلةِ جهةٍ ما مع الحزب “القائد”، تتناقض مع صلة الجهة الأخرى المتحالفة معه. أما عناوين الالتقاء فأبرزها: المقاومة وتستبطن عدم الثقة بالدولة. الأصولية الدينية حتى لو كانت تفترق في أمور كثيرة مع الحزب ومع بقية حلفائه. معارضة الحريرية في المجالات السياسية والاقتصادية. وأخيراً، وهو الأخطر، تحالف الأقليات ضدّ الأكثرية السنية في المنطقة، وهو قادر بسهولة على تفجير المعادلات برمّتها.  

فهل نشهد حالياً أمارات التفكّك أو التعب على هذه المنظومة أم ما زال ممكناً ترميمها، بتجديد ولاءاتها، وتحديث مصالحها، واكتشاف جدوى استمرارها في المدى المنظور، كما بات يتردّد علناً على لسان النائب جبران باسيل لجهة إنعاش تفاهم مار مخايل بينه والحزب ولو بالتعديل؟

بالطبع، إنّ تحالف الأشباه والنظائر أكثر أماناً ودواماً من تحالف الأضداد والنقائض، فيما تحمل تحالفات المختلفين إلى هذا القدر أو ذاك، احتمالات التفجّر كما الصمود بالقدر نفسه

لا تنحصر المشكلة في العلاقة المتأرجحة مع تيار باسيل، مع ما يبدو أحياناً من تململ حلفاء الحزب الآخرين، وهم من مكوّنات طائفية وأيديولوجية مختلفة. وقد برز هذا التململ إلى السطح أكثر فأكثر، منذ التسوية الرئاسية عام 2016، واحتلال الحليف العوني مرتبة أعلى بين سائر الحلفاء. وسطع بشكل أكثر درامية، مع اشتعال ثورة 17 تشرين، وانجرار معظم حلفاء الحزب نحو مطالب الشارع، خصوصاً أنّ الثورة تعترض على نظام اقتصادي انتهى إلى الفشل الذريع، وهم كانوا ينقدونه دائماً، فكيف يتصدّى الحزب لهذه الثورة، مباشرة تارة، وبطُرق أخرى تارة أخرى؟ بل كيف يستمر بتحالفه مع طرفي التسوية الرئاسية، وقد أفضت السياسات النابعة من تحالفهما الوثيق إلى كارثة اقتصادية واجتماعية هائلة؟ 

إقرأ أيضاً: ولماذا ينفي “الحزب” قتل لقمان؟

لم تولد المنظومة دفعة واحدة، ولم يكن سهلاً بناؤها، بل هي نتاج عملية تراكمية بطيئة ومثابرة. وبما أنّه من شبه المستحيل إنشاء جبهة عريضة على برنامج تفصيلي موحّد، اكتفى الحزب بعنوان “المقاومة” بعد تجريده من الانتماء الديني الصارخ، كي يحتوي أكبر عدد ممكن من الأنصار. نجحت الفكرة مرحلياً، لكنّ عواقب التحالفات المتناقضة، والثنائيات المتضاربة، تضغط على مجمل المنظومة، وتصيب النظام نفسه بالعجز الفاضح، فلم يعد ممكناً الاستمرار بالقواعد الرمادية السابقة، ولا الحزب بقادر على اتخاذ قرارات قاطعة كما يريد منه باسيل. هو يريد الإفادة من كلّ حليف، من دون أن يحمل عبئه. غُنم بلا غُرم كبير. ربح بأقل قدر من الخسارة. وإلى ذلك، سقط دور المنظومة، كواجهة سياسية أمام الغرب، لا سيما الولايات المتحدة. جاءت العقوبات كي تُفقد المنظومة دورها وصلاحياتها إلى حدّ كبير. أصبح الحزب في العراء، بلا غطاء. جاء من يحاول إعادة إنتاج المنظومة إيّاها بدور قديم مستهلك، هو التصدّي لإرهاب تنظيم داعش. سرعان ما انكشفت هشاشة الفكرة، وتسلّط الضوء أكثر فأكثر، على تمزّق الغطاء وترهّله. لم يعد زمام المبادرة بيد أحد.   

مواضيع ذات صلة

تركيا في الامتحان السّوريّ… كقوّة اعتدال؟

كان عام 2024 عام تغيّر خريطة الشرق الأوسط على أرض الواقع بعيداً عن الأوهام والرغبات التي روّج لها ما يسمّى “محور الممانعة” الذي قادته “الجمهوريّة…

ردّاً على خامنئي: سوريا تطالب إيران بـ300 مليار دولار

 أفضل ما كان بمقدور إيران وقياداتها أن تقوم به في هذه المرحلة هو ترجيح الصمت والاكتفاء بمراقبة ما يجري في سوريا والمنطقة، ومراجعة سياساتها، والبحث…

إسرائيل بين نارين: إضعاف إيران أم السُنّة؟

الاعتقاد الذي كان سائداً في إسرائيل أنّ “الإيرانيين لا يزالون قوّة مهيمنة في المنطقة”، يبدو أنّه صار من زمن مضى بعد خروجهم من سوريا. قراءة…

تركيا والعرب في سوريا: “مرج دابق” أم “سكّة الحجاز”؟

الأرجح أنّ وزير الخارجية التركي هاكان فيدان كان يتوقّع أن يستقبله أحمد الشرع في دمشق بعناقٍ يتجاوز البروتوكول، فهو يعرفه جيّداً من قبل أن يكشف…