منذ خطاب البطريرك في 5 تموز عام 2020 والذي تلته عشرات الخطابات والمواقف والاجتماعات، تصاعد الاعتقاد بأنّ البطريرك فقد الثقة بإرادة ” العهد القوي” في الإصلاح، وفي تدارُك الأوضاع المالية والاقتصادية والمعيشية، وفي إعادة الانتظام إلى علاقات لبنان العربية والدولية. وبعد 17 تشرين الأول، وإقفال البنوك، وانهيار الليرة، صار انعدام الثقة أمراً مؤكداً. وتجلّى ذلك في كلمات البطريرك المتكررة التي دعمت مطالب الثوار، وضغوطه من أجل تشكيل حكومة قادرة وفاعلة لوقف الانهيار وإعادة الإعمار بعد انفجار المرفأ في 4 آب 2020.
فلنتذكر قليلاً كيف بدأ البطريرك مطالعاته الاعتراضية، وبعضها بحضور رئيس الجمهورية أو في خطاب موجَّهٍ إليه. البدء كان بالدعوة إلى تحرير الشرعية، وحياد لبنان، ثم كان المطلب الدائم في الشهور الأخيرة بتشكيل “حكومة المهمة” بحسب المبادرة الفرنسية، والمكوّنة من اختصاصيين غير حزبيين. أما منذ شهر فإنّ البطريرك نادى الأُمم المتحدة لضمان تحقيق الحياد للبنان. وبالطبع حدثت متغيرات في خطاب البطريرك الراعي الوطني والسياسي. فبعد أسابيع غاب عنوان “تحرير الشرعية” الذي كان رئيس الجمهورية مطالباً به. وربما سبب ذلك رغبته في تجنّب الصدام المباشر مع الحزب المسلَّح الذي يستأسر الشرعية منذ حوالى العقد ونصف العقد. إنّما جرى التعويض عن هذا الغياب بحضور الدستور في خطابات البطريرك. وقد كان الحضور الجديد هذا بسبب راديكالية خطاب بعض فِرَق الثورة، وبسبب تضييع الرئاسة ومستشاريها للشنكاش بقولهم إنّهم يريدون تعديل الدستور أو تغييره لتقوية صلاحيات الرئاسة، واستعادة حقوق المسيحيين! وأخيراً فإنّ البطريرك رأى حاجةً لاستنهاض الوعي بالدستور من جديد بعد استحكام الأزمة والعودة إلى فكرة المؤتمر التأسيسي في راديكاليات خُطب المفتي الشيعي الممتاز أحمد قبلان. وقد جاء خطاب البطريرك يوم الأحد في 21 شباط ليؤكّد أنّ المؤتمر الدولي الذي دعا إليه إنما هو لدعم تطبيق الدستور وقرارات الشرعية الدولية.
تأكد البطريرك بعد انتظار لحوالى السنوات الثلاث أنّ الرئيس القوي لن يفعل شيئاً، فضلاً عن انغماس التيار الوطني الحر مثل الآخرين في الفساد. ومع أنّ البطريرك سمع الجنرال مراراً يقول إنّ الحزب لا يستخدم سلاحه بالداخل، وإنه محتاج لسلاح الحزب لأنّ الجيش ضعيف، وإنّ سلاح الحزب سيظلّ حاضراً إلى نهاية أزمة الشرق الأوسط، فإنّ البطريرك بقي لديه أملٌ ما لبث أن تضاءل حتى اختفى
بيد أنّ أكبر أفكار البطريرك ومشروعاته إثارةً للجدل كانت فكرته أو مشروعه عن الحياد. فحتى الذين أيّدوه من غير المسيحيين تحدّثوا عن تحييد لبنان عن صراعات المحاور. وقال آخرون إنّ الحياد هو مقتضى دستور الطائف فلا غرابة فيه. في حين عارضه آخرون بحجة القضية الفلسطينية. وقد اضطرّ البطريرك إلى إصدار ورقة تتضمن معالم مشروعه حول الحياد. وبين مُخفِّفٍ من خطر المشروع بحيث لا يتجاوز أطروحة النأي بالنفس للعام 2011، وبين معتبرٍ أنّ الأمر مهمّ جداً لحماية لبنان من التصارع الداخلي على الهوية والتبعية، ومن الصراع الخارجي عليه – بحيث يكون حياداً مثل الحياد السويسري – مضى البطريرك أخيراً باتجاه الأمم المتحدة، فدعاها إلى أن تتبنّى، في اجتماعٍ دوليٍّ، حياد لبنان. والصديق نوفل ضوّ يقول إنّ البطريرك ما أراد بذلك المطالبة بالوصاية الدولية، بدليلٍ تاريخ بكركي الرافض للحماية والتبعيات منذ أيام العثمانيين، بل إنّ منطق البطريرك في عروضه كلَّ يوم أحد أنّ لبنان يحتاج إلى رعاية مزدوجة وليس إلى وصاية: الحماية من إدارة الدولة الفاشلة، بسبب التغالب والفساد، والحماية من المحاور التي يتردّى فيها لبنان كل فترة، وهي اليوم: المحور الإيراني.
لقد وصل هذا الارتهان المزدوج أو الاستقطاب إلى انهيار شامل، وإلى العجز حتى عن القيام بأبسط الأمور وهو تشكيل حكومة “مهمة” أو إنقاذ. على الرغم من السوء الذي لا قاع له، والذي بلغته الأوضاع في البلاد من كل النواحي.
تشخيص البطريرك منذ خطابه الأول أنّ الشرعية تُعاني من الأسر، وهي محتاجة إلى تحرير. ولا يمكن إحداث ذلك بطريقة نظامية إلاّ بإخراج سلاح الحزب ووهجه من التأثير والسيطرة في الساحة اللبنانية، ومن التدخل عسكرياً لصالح المحور الإيراني في دولٍ عربية عديدة. فالإدارة اللبنانية في معالمها الرئيسية تحت سيطرة الحزب. ولبنان معزول عن محيطه العربي وعن العالم بسبب استخدام الحزب لمرافقه الرئيسية في الإضرار بالعرب وبالأمن العالمي لصالح إيران.
وقد تأكد البطريرك بعد انتظار لحوالى السنوات الثلاث أنّ الرئيس القوي لن يفعل شيئاً لهذه الجهة، فضلاً عن انغماس التيار الوطني الحر مثل الآخرين في الفساد. ومع أنّ البطريرك سمع الجنرال مراراً يقول إنّ الحزب لا يستخدم سلاحه بالداخل، وإنه (أي الجنرال) محتاج لسلاح الحزب لأنّ الجيش ضعيف، وإنّ سلاح الحزب سيظلّ حاضراً إلى نهاية أزمة الشرق الأوسط، فإنّ البطريرك بقي لديه أملٌ ما لبث أن تضاءل حتى اختفى أن يدعو الرئيس كما وعد مراراً إلى تجديد الحديث في الاستراتيجية الدفاعية، والتي تعني بحثاً في مصائر سلاح الحزب. وعندما لم يحدث شيءٌ من ذلك، فضلاً عن “الكربجة” في الوضع العام، بحيث ذهب معظم الثوار إلى أنّ “النظام لم يعد ينفع”، ولكي لا يصطدم البطريرك بعون وبالحزب مباشرةً بعد يقينه بانسداد الاُفق لدى الجهتين، رفع السقف عالياً باتجاه مشروع الحياد والرعاية الدولية.
الحياد، الذي يعني إبعاد لبنان عن المحاور، وهو من سنوات أسير المحور الإيراني، يفضح أوّل ما يفضح الحزب وسلاحه، ودعوة البطريرك تجمعُ المسيحيين الذين تعبوا مثل سائر اللبنانيين من حروب الحزب عليهم وعلى محيطهم العربي والغربي الذي يعيشون فيه ويعملون
لا أُريد العودة إلى معنى الحياد والجوانب الدستورية، وما يتعلق بالقانون الدولي. فقد كتب فيه عديدون. وأعجبني ما كتبه أنطوان مسرّة وصالح المشنوق بين آخرين. على أنّ رؤية البطريرك لا تنطلق من تلك الخلفية القانونية والتنظيمية الكبيرة، كما لا تنطلق من الدعوات السابقة لإخراج لبنان من دائرة المحيط وأعبائه ومشكلاته. بل تنطلق من قناعةٍ أبسط: لا يستطيع اللبنانيون نزع سلاح الحزب بقواهم الذاتية. كما لم يعودوا يستطيعون إدارة عيشهم المالي والاقتصادي والسياسي. ولذلك وبدون خلفياتٍ تتعلق بالهوية والانتماء أو حتى بالالتزامات: لا بد من إدارة دولية عبر الأمم المتحدة لمعالجة الأمرين: أمر نزع سلاح الحزب، وأمر إنقاذ الشعب اللبناني من الإدارة الفاشلة والفاسدة للدولة.
قلت مرةً للبطريرك بعد أن أعطاني ورقته حول الحياد: “ما دام الأمر لا يتعلق بالهوية والانتماء، ولا بالالتزامات الوطنية والقومية، فنحن لا نحتاج لهذه الدورة الطويلة للوصول إلى أمري السلاح والفساد السياسي. لدينا القرارات الدولية: 1559، 1680، 1701. في القرار الأول تُنزع أسلحةُ كل الجهات غير الرسمية. وفي القرار الثاني تُحاكم الجريمة السياسية. وفي القرار الثالث تنتهي قصة الجبهة مع إسرائيل والتي يزعم الحزب دائماً تكويم السلاح من أجلها”. فأجابني: “هذه القرارات موجودة من زمان، وما نفذ منها إلا 1680 وشوف كم كانت نتائجه ضئيلة، والجريمة السياسية مستمرّة”. وقلت: “لكنّ الحياد أيضاً أبعد من إنفاذ القرار الدولي، لأنّه يتطلب إجماعاً وطنياً، ولن يوافق عليه بالطبع المسلَّحون ولا الفاسدون، وهم غالبية بين الطبقة السياسية”. وعندما صمت البطريرك لبضع دقائق تابعتُ الكلام: “أنا مع طرح فكرة الحياد، والمُضيّ باتجاه المجتمع الدولي، لأنّ في ذلك لفتاً لقداسة البابا وللمجتمع الدولي إلى السوء الشديد للأوضاع عندنا، وفيه التوعية للمواطنين بما نزل بالوطن نتيجة الاحتلال السياسي الإيراني، ونتيجة تحالف الميليشيا مع المافيا. فأنتم تعلمون يا صاحب الغبطة أن الجنرال أقنع جمهوراً واسعاً بفوائد “تحالف الأقليات” الذي كان وما يزال وبالاً على لبنان. ويضاف لهذا وذاك وذلك أنّ المبادرة الفرنسية طليعة، ويمكن أن تجتذب أطرافاً أُخرى عربية ودولية. وإذا ترافق ذلك مع عودة التفاوُض بين أميركا وإيران على النووي، فإنّ إسرائيل لن تقبل سلاحاً إيرانياً على حدودها لا في سورية ولا في لبنان. وهذا يعني أنّ مبادرتكم قد لا تصل بحذافيرها إلى مستقرّ. لكنها تدفع باتجاه تشكيل جبهةٍ وطنيةٍ واسعة من أجل النهوض الأجدى في وجه السلاح غير الشرعي، والفساد الفظيع، وكلُّ الظروف المذكورة، قد توصل في الأمد المتوسط إلى وعي وطني ونهوض وطني وخروج على المسلحين والفاسدين”.
لقد أتت النجدة إلى البطريرك من جهةٍ غير متوقَّعة، أعني من جهة الزعيم المعصوم الذي اعتبر دعوته إلى الحياد دعوةً إلى الحرب. وأضاف أنّ “البطرك عم يمزح!”. بينما المؤكَّد أنّ البطريرك إنما أراد بالذهاب إلى العالم وإلى المجتمع الدولي تجنُّب النزاعات الداخلية. تماماً مثلما سعى قادة 14 آذار إلى تأسيس المحكمة الدولية في استشهاد الرئيس الحريري، وليس لأنّ القضاء اللبناني ضعيف أو غير مستقلّ فقط، بل ولأنّ المشتبه بهم كانوا طرفين: الحزب المسلَّح والنظام السوري، ولكلٍ منهما نفوذٌ غلاّبٌ في لبنان. وتتصاعد الآن من جديد الدعوات إلى تحقيق دولي في انفجار المرفأ بعدما راح التحقيق القضائي يمضي باتجاه المسلحين وبالاتجاه السوري. ومن المعروف أنّ الزعيم المحاور كان في أحد خطاباته قد طالب من الجيش بأن يكشف عن معلوماته، وإلا سيكشفها هو.
إنّما المثير والذي يُثبت أنّ الأمر ليس باذنجانة، بل قلوب مليانة، أنّ زعيم الحزب حمل على الحياد من خلال القول إنّ المطالبة بالبند السابع تُحدث حرباً. والذي تحدث عن البند السابع ليس البطريرك وإنّما النائب أنور الخليل،الذي دار بينه وبين سليم جريصاتي جدال طُرشان لم يخمد بعد.
نعم الحياد، الذي يعني إبعاد لبنان عن المحاور، وهو من سنوات أسير المحور الإيراني، يفضح أوّل ما يفضح الحزب وسلاحه، ودعوة البطريرك تجمعُ المسيحيين الذين تعبوا مثل سائر اللبنانيين من حروب الحزب عليهم وعلى محيطهم العربي والغربي الذي يعيشون فيه ويعملون. كما أنّ هجوم زعيم الحزب على البطريرك يزيد في يقين أكثرية المسيحيين أنّ خيار الجنرال التحالف مع الحزب ومع بشار الأسد، هو ضربةٌ قاصمةٌ للبنان المسيحي والحضاري بالذات. وأخيراً فإنّ هذه الواقعة كفيلةٌ بأن تُقنع مَنْ لم يقنع بعد أنّ الجبهة الوطنية من حول بكركي ضرورةٌ لحماية لبنان وطناً ودولةً واستقلالاً وعيشاً مشتركاً ودستوراً.
البطريرك يريد تجنيب لبنان النزاع الداخلي المرير والشلل ودمار الإنسان والعمران ويريد تجنيب لبنان استغلالات المحاور وحروبها. والمسيحيون من ورائه يقولون: “لا للمثالثة لا للسلاح، نعم للتدويل”. ويريدون أن ينضمّ إليهم السنّة والدروز.
إقرأ أيضاً: إلى جانب “مجد لبنان”… حياداً وتدويلاً
أما المستفيدون من الميليشيات والنزاعات وعقائديات المحاور، والقائمون عليها فيعتبرون مخالفيهم من المواطنين المسالمين مريدين للنزاع، والمزاح في الوقت نفسه. أما الذين شنّوا الحروب دائماً على مواطنيهم فشأنهم ودأبهم كما قال الشاعر:
يرضى القتيلُ وليس يرضى القاتلُ.