العهد القوي يضارب بالدولار: والبلد يعيش على أموال المغتربين…

مدة القراءة 7 د

“عدنان” هو اسم مركّب لمغترب لبناني طلب عدم نشر اسمه، يعمل في مجال الطاقة في واحدة من الدول الأفريقية. قبل الأزمة كان عدنان يحوّل إلى والدته في بيروت مبلغ 1000 دولار لزوم أدويتها وطعامها وحاجياتها. بعد الأزمة، يقول عدنان لـ”أساس” إنّه بات يحوّل نصف المبلغ تمامًا، وذلك مع ارتفاع سعر صرف الدولار اليوم إلى ما فوق 10 آلاف ليرة، وأنّ والدته ممنونة جدًّا من هذا الرقم، الذي قفز من مليون و500 ألف ليرة إلى قرابة 5 ملايين ليرة.

“أسامة” اسم آخر، للبناني يعمل في مجال المبيعات في المملكة العربية السعودية، كان يرسل إلى ذويه في العاصمة بيروت مبلغ 4 آلاف دولار شهريًّا، وقلّص هذا الرقم إلى 2000 دولار بعد الأزمة، لأنّ مجموع ما بات يرسله يتخطى الـ20 مليون شهريًّا، وهذه الملايين تتخطى رواتب 3 مدراء عامين في الإدارة.

“وسام” اسم ثالث، لمغترب لبناني، وربّ عائلة يعمل في مجال الكهرباء والإلكترونيات في الإمارات العربية. قبل الأزمة كان وسام يُحوّل إلى عائلته المقيمة في بيروت، مبلغًا قدره نحو 1500 دولار شهريًّا وخفّضه أيضًا إلى النصف تقريبًا.

“أسامة” اسم آخر، للبناني يعمل في مجال المبيعات في المملكة العربية السعودية، كان يرسل إلى ذويه في العاصمة بيروت مبلغ 4 آلاف دولار شهريًّا، وقلّص هذا الرقم إلى 2000 دولار بعد الأزمة

يقول “وسام” إنّ مجموع ما يرسله شهريًّا بواسطة شركات تحويل الأموال، لا يتخطى 700 أو 800 دولار، فهذا الرقم اليوم بات يقارب 10 ملايين ليرة لبنانية، بعد أن أصبح سعر صرف الدولار في السوق السوداء قرابة 14000 ليرة، وهو مرشّح إلى مزيد من الارتفاع في الأيام القليلة المقبلة، ولا يُستبعد أن يصل إلى 20 ألفًا نهاية هذا الأسبوع، بحسب التقديرات ومقارنةً بنمط تحرّك سعر الصرف في الأيام القليلة الماضية، التي تشهد مع كل طلعة شمس ومغيبها، رقمًا جديدًا أعلى من سابقه يقارب ارتفاع ألف ليرة يوميًا في بعض الأحيان.

عائلة “وسام” في بيروت ما عادت مضطرة لأن تصرف هذا المبلغ دفعة واحدة، وإنّما بـ”القطارة”. تقصد زوجته الصراف لتصرف 50 دولارًا كلّما دعت الحاجة إلى ذلك… وهكذا دواليك حتى تحلّ بداية الشهر المقبل. لأنّ دولار اليوم غير دولار الغد.

أكثر من ذلك، فإنّ عائلة وسام باتت قادرة على ادّخار مبلغ يسير من هذه الدولارات في المنزل، بخلاف ذاك المبلغ الكبير الذي كان يحوّله قبل الأزمة ويُصرف بالكامل.

صحيح أنّ أسعار السلع تتصاعد بشكل صاروخي، وساعة بساعة، إلّا أنّ أسعار المواد الاستهلاكية والغذائية باتت، نسبةً إلى سعر صرف الدولار اليوم، أرخص بكثير لمن يحصل على مدخول دولاريّ “فريش” من الخارج.

فسعر كيلو اللحم البقري الذي كان 11 دولارًا قبل الأزمة (17000 ليرة)، بات اليوم بحدود 3.5 دولارات، وكذلك ربطة الخبز التي كانت بدولار واحد صارت بـ17 سنتًا، وعلبة مسكّن الأوجاع “بنادول” التي يعرفها اللبنانيون منذ عقود، كان سعرها قبل الأزمة نحو دولارين، واليوم أصبحت بـ35 سنتًا هذا إذا وجدت. أما علبة السجائر فكان سعرها قبل الأزمة 3 دولارات واليوم بات دولارًا واحدًا. حتّى سعر تشريج الهاتف الخلوي الذي كان بـ22 دولارًا شهريًّا، أمسى اليوم بحدود 3 دولارات فقط…

صحيح أنّ أسعار السلع تتصاعد بشكل صاروخي، وساعة بساعة، إلّا أنّ أسعار المواد الاستهلاكية والغذائية باتت، نسبةً إلى سعر صرف الدولار اليوم، أرخص بكثير لمن يحصل على مدخول دولاريّ “فريش” من الخارج

كلّها سلع وخدمات أسعارها حلّت كوارث على من يتلقى راتبه بالليرة اللبنانية (على الرغم من أنّ مصرف لبنان يدعمها)، لكن لا يشعر بانخفاض سعرها إلا حَمَلَة الدولار الـ”فريش”، الذين باتوا اليوم قادرين على صرف دولارات أقلّ، طالما يستمرّ الدعم من مصرف لبنان للسلع الرئيسية.. هذا إذا وُجِدَت. أما حين يتوقف الدعم، وتصير الأسعار عارية، وبالدولار، فستقع الواقعة على الجميع. وقد توقّع خبراء اقتصاديون أن يتوقف التسعير بالليرة قريبًا، ويبدأ التسعير بالدولار تفاديًا للتلقّب اليومي في سعر صرف الليرة.

إذًا، من حيث لا نشعر فإنّ آلية اقتصاد هؤلاء في صرف الدولارات “غبّ الحاجة”، تساهم في تقليص حجم العرض لصالح الطلب الكبير والمتنامي، تزامنًا مع شحّ احتياطات مصرف لبنان.

وهذا النقص في صرف دولارات اللبنانيين لدى الصرافين، يزداد كلّما ارتفع سعر الصرف، لأنّ الـ100 دولار التي كانت تساوي 150 ألف ليرة قبل الأزمة، ثم باتت 400 و600 و800 ألف، باتت اليوم تساوي مليون و400 ألف ليرة، فيما الرقم مرشّح إلى الارتفاع (وصل سعر الصرف أمس الثلاثاء إلى 14500 للشراء و15000 ليرة للمبيع).

لكن على الرغم من كلّ هذه الارقام، وعلى الرغم من الضمور الذي أصاب الأموال المقبلة من الخارج، فإنّ هذه الأموال هي الـ”أوكسجين” الذي يُبقي لبنان على قيد الحياة. واحدة من شركات تحويل الأموال اللبنانية أكدت لـ”أساس”، أنّ الأموال المقبلة من الخارج، إن كان عبر المصارف أو عبرها، هي “العامل الإيجابي الوحيد الذي يحافظ على ما تبقى من الاقتصاد”، معتبرة أنّ المغترب اللبناني “يقف اليوم وقفة شجاعة” أمام أهله وأشقائه، وبالتالي يساهم في الصمود النسبي بسعر الليرة، ولولا هذه الأموال “لكانت الليرة في خبر كان منذ زمن بعيد”.

الشركة كشفت أنّ معدل التحويلات قبل الأزمة كان بين 650 و700 دولار، لكنّه انخفض اليوم إلى 600 دولار أميركي، وهذا يعني أنّ التحويلات من الخارج قد انخفضت بشكل طفيف جدًّا.

سألنا الشركة عن أرقام التحويلات خلال شهري كانون الثاني وشباط 2020 مقارنة مع الشهرين الفائتين من السنة الحالية، فأكّدت أنّه لا يمكن التأكّد من هذه الأرقام بشكل دقيق قبل نهاية شهر حزيران، لأنّ مصرف لبنان تراجع عن قرار دفع التحويلات بالليرة اللبنانية على سعر المنصة في 7 آب (بعد انفجار المرفأ)، وبالتالي، يصبح من الضروري الانتظار حتى استمكال سنة كاملة دُفعت خلالها المبالغ بالدولار من أجل معرفة الفرق وإجراء هذه المقارنة.

الشركة كشفت أنّ معدل التحويلات قبل الأزمة كان بين 650 و700 دولار، لكنّه انخفض اليوم إلى 600 دولار أميركي، وهذا يعني أنّ التحويلات من الخارج قد انخفضت بشكل طفيف جدًّا

لكنّ الأرقام التي تؤكدها الشركة تقول إنّ “60% من العمليات التي تجريها باتت لا تتخطى قيمتها سقف الـ300 دولار أميركي، وهذا يعني أنّ كل الأموال المقبلة إلى لبنان من خلال شركات تحويل الأموال مخصصة للاستهلاك الغذائي ولسدّ الحاجيات اليومية.    

خلال كتابة هذه السطور، سجّل سعر الصرف أعلى نقطة له في العاصمة بيروت هي 14500 ليرة للمبيع و15500 ليرة للشراء، وهذا يعني أنّ الليرة اللبنانية تكون بذلك قد خسرت نحو 91% من قيمتها، وبالتالي يشي صراحة بأنّ الليرة باتت تأكل نفسها.

إقرأ أيضاً: آخر الفرص لكبح انهيار الليرة… وإلّا

الارتفاع في سعر الصرف أخذ “يجترّ” المزيد من الارتفاع يومًا بعد يوم ، تمامًا مثل كرة الثلج التي تكبر كلما تقدّمت إلى الأمام، أو مثل ما يُعرف علميًّا بالـDomino Effect… الانهيار يجلب الانهيار تلو الآخر.

قبل 3 نحو سنوات، سجّل سعر صرف الدولار في تركيا أرقامًا قياسية بفعل أزمة سياسية أيضًا، فخرج الرئيس التركي رجب طيب أردوغان على الشاشات، متوسّلًا الأتراك تحويل ما يملكون من عملات صعبة إلى الليرة التركية. أما في لبنان، فإنّ الرئاسة طلبت من الأجهزة الأمنية اعتقال الصرافين… بمعنى آخر فإنّ الرئاسة ساهمت في تقليص عدد الصرافين العاملين، وبخفض عمليات التحويل إلى الليرة… فانظروا كيف يضارب “العهد القوي” بالدولار من حيث لا يعلم، ويساهم في ذلّ المواطنين.

 

مواضيع ذات صلة

هذه هي الإصلاحات المطلوبة في القطاع المصرفيّ (2/2)

مع تعمّق الأزمة اللبنانية، يصبح من الضروري تحليل أوجه القصور في أداء المؤسّسات المصرفية والمالية، وطرح إصلاحات جذرية من شأنها استعادة الثقة المفقودة بين المصارف…

لا نهوض للاقتصاد… قبل إصلاح القطاع المصرفيّ (1/2)

لبنان، الذي كان يوماً يُعرف بأنّه “سويسرا الشرق” بفضل قطاعه المصرفي المتين واقتصاده الديناميكي، يعيش اليوم واحدة من أخطر الأزمات النقدية والاقتصادية في تاريخه. هذه…

مجموعة الـ20: قيود تمنع مواءمة المصالح

اختتمت أعمال قمّة مجموعة العشرين التي عقدت في ريو دي جانيرو يومي 18 و19 تشرين الثاني 2024، فيما يشهد العالم استقطاباً سياسياً متزايداً وعدم استقرار…

آثار النّزوح بالأرقام: كارثة بشريّة واقتصاديّة

لم تتسبّب الهجمات الإسرائيلية المستمرّة على لبنان في إلحاق أضرار مادّية واقتصادية مدمّرة فحسب، بل تسبّبت أيضاً في واحدة من أشدّ أزمات النزوح في تاريخ…