تضيق كل الآفاق المحلية سياسيًّا. تُغرق القوى السياسية أنفسها في مأزق تلو الآخر. من يعارض التدويل، أو التحقيق المدوّل، ومن ينفي وجود عوامل خارجية تتحكم بمسار تشكيل الحكومة، هو نفسه الذي يرتكب الأخطاء، فيضع الملف اللبناني كلّه في جَعبة المجتمع الدولي وتدخلات القوى الدولية. كل الملفات أصبحت متداخلةً ببعضها البعض. من تجربة التلقيح السيّئة على مرأى من البنك الدولي الذي موّل اللّقاحات، إلى التحقيق في تفجير المرفأ، والدعوات لتدويل التحقيق وتدويل الأزمة اللبنانية ككل، وصولًا إلى الأزمة المستمرة على طريق تشكيل الحكومة. يواجه لبنان جملة استحقاقات لا تسمح له بالتنفّس ولا بالصمود. وكلها تفتح الباب أمام الرهان على أن الحلّ سيأتي من الخارج، وذلك لأسباب عديدة.
– أولًا، في ملفّ الحكومة لا يزال الاستعصاء على حاله. فقد أطلق رئيس التيار الوطني الحرّ فرماناته لتسهيل عملية التشكيل، ما جعل الحكومة غير قابلة للولادة قريبًا إلّا بتوافر ظروف إقليمية ودولية تدفعها إلى النور. في المقابل، الرئيس المكلف سعد الحريري لا يزال على شروطه، متمسّكًا بورقة التكليف، وهو يحظى بدعم إقليمي ودولي من خلال لقاءاته وجولاته التي أجراها، وهو حاليًّا يستعد لزيارة موسكو ولقاء الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، ووزير الخارجية سيرغي لافروف.
ما يريده الحريري هو الاستمرار في إظهار أنّه يتمتّع بغطاء عربي ودولي، على الرغم من عدم حصوله على موعد لزيارة السعودية حتى الآن. بينما روايات تقول إنّ هناك وجهتا نظر حول الزيارة، الأولى توافق على استقبال الحريري من قِبل وزير الخارجية السعودية، والثانية أن تتأجل الزيارة واللقاء مع الملك سلمان بن عبد العزيز وولي العهد محمد بن سلمان، إلى ما بعد تشكيل الحكومة والصورة التي ستكون عليها.
– ثانيًا، يؤدي الاستعصاء السياسي الداخلي، إلى تدويل الأزمة اللبنانية بشكل غير معلن، الأمر الذي يرفضه حزب الله ويعارضه بشكل واضح، لكنه في الممارسة أصبح أمرًا واقعًا، خصوصًا أنّ هناك مبادرة فرنسية، أيّ مبادرة دولية لتشكيل حكومة، والبدء بوضع خطة إصلاحية وإنقاذية. ولا يمكن للمبادرة الفرنسية أن تنجح من دون تسهيل أميركي – إيراني، وهذا ما يرتبط بتطورات الوضع في المنطقة والمفاوضات الإيرانية الأميركية.
ما يريده الحريري هو الاستمرار في إظهار أنّه يتمتّع بغطاء عربي ودولي، على الرغم من عدم حصوله على موعد لزيارة السعودية حتى الآن
– ثالثًا، العوامل المتداخِلة التي أدّت إلى إفشال المبادرة الفرنسية حتى الآن، حتّمت دخولًا دوليًّا وإقليميًّا على الخطّ في محاولة لمساعدة باريس، ما شرّع الأبواب أمام زيارة وزير الخارجية القطرية، في محاولة لسحب تنازل من رئيس الجمهورية ورئيس التيار الوطني الحرّ، والقول إنّ الدوحة هي التي تمكّنت من تسهيل وإنجاح المبادرة الفرنسية. لكن حتّى الآن لم يتحقّق شيء من ذلك. في الموازاة يأتي الدخول الروسي على الخطّ، فيما المعلومات تؤكد أن لا مبادرة روسية بهذا الصدد، إنّما حضور واستطلاع ومحاولة للتسهيل، وسط أجواء تفيد بأنّ كل هذه التدخلات تأتي تحت سقف المبادرة الفرنسية. وقبل ذلك كلّه كان ولا يزال هناك الحضور المصري على الخطّ، بالإضافة إلى الدور الإماراتي المكمّل والمساعد للمبادرة الفرنسية، والذي يعطيها دفعًا عربيًّا.
– رابعًا، كل هذه الأجواء وضعت لبنان على سكّة التدويل، وهو شعار طرحه البطريرك الماروني بشارة الراعي علنًا وصراحة، في مسعًى منه لاستقطاب الاهتمام الدولي بلبنان، وإعادة تحديد أولوية وحيدة، وهي الحفاظ على لبنان الكبير وكيانه ودستوره، من دون الذهاب إلى مؤتمر تأسيسي أو الإطاحة باتفاق الطائف، إنما الحفاظ عليه، ويحفظ المناصفة بدلًا من المثالثة. هذا الطرح سارع حزب الله إلى معارضته وتوصيفه بأنّه دعوة إلى الحرب، الأمر الذي أحدث استنفارًا لبنانيًّا متعاطفًا مع بكركي. وسيتحلّق كثيرون حول الراعي أكثر فأكثر في المقبل من الأيام، من خلال تحركات لوفود سياسية وشعبية مؤيدة لمواقف البطريرك. وهذا سينعكس سلبًا وحرجًا على التيار الوطني الحرّ ورئيس الجمهورية في مواجهة بكركي والبيئة المسيحية، كما أنّه سيضع المشكلة في خانتها الأبعد، وهو ما يطرحه الراعي صراحة، أي مشكلة السلاح خارج إطار الدولة والاستقواء به، ما يفتح البحث على ما هو أبعد من عملية تشكيل الحكومة.
– خامسًا، عدم ثقة المجتمع الدولي بالقوى السياسية اللبنانية، ولذلك فإنّ الشروط المفروضة على الحكومة التي ستتشكل واضحة لجهة إلزام القوى اللبنانية ببرنامج إصلاحي، انطلاقًا من تجارب كثيرة في مجالات متعددة، سياسيًّا، واقتصاديًّا، واجتماعيًّا. وهذا لا ينفصل عن مسألة الدعوات لإجراء تحقيق دولي في تفجير المرفأ، بعد كلّ المرارة القضائية التي شهدها هذا الملف. والخطأ الذي ارتُكب بتنحية القاضي صوان، سيكون مدخلًا أساسيًّا للمطالبة بتدويل التحقيق.
كل هذه الأجواء وضعت لبنان على سكّة التدويل، وهو شعار طرحه البطريرك الماروني بشارة الراعي علنًا وصراحة، في مسعًى منه لاستقطاب الاهتمام الدولي بلبنان، وإعادة تحديد أولوية وحيدة، وهي الحفاظ على لبنان الكبير وكيانه ودستوره
تذكّر هذه المشاهد، بصورة الانقسام السياسي الكبير في العام 2005. لكن هذه المرّة يعيش لبنان حالة انهيار غير مسبوق، وسط صراع بين رؤيتين، رؤية تريد للوضع أن يبقى على ما هو عليه، بناءً على مصلحة سياسية استراتيجية، وهي حزب الله، تلتقي مع مصلحة تكتيكية يمثلها جبران باسيل وميشال عون، في مواجهة موقف داخلي تمثّله قوى سياسية، إلى جانب بكركي، وتتماهى مع الشروط والمواقف الداخلية الداعية للإصلاح، في مواجهة عون وحزب الله اللذين يضربان الطائف والدستور. وهناك قوى متعددة الاتجاهات والانتماءات تتصدى لمثل هذه التصرفات المنهجية، ما يجعل البطريركية المارونية، مع وليد جنبلاط، ونبيه بري، وسليمان فرنجية، وقوى سنيّة أخرى، في الخندق والموقف الداعي ذاته، للدفاع عن الطائف بمعزل عن مسألة تدويل الأزمة، أو ربما بالاختلاف على انتقاء المصطلحات.
إقرأ أيضاً: قراءة تاريخية لـ”14 آذار”: خروج أهل السنّة من المعادلة الوطنية! (1/2)
هذا الموقف له بعد إقليمي ودولي، يتمثل الجولة التي يقوم بها السفير السعودي في لبنان وليد البخاري على المرجعيات الدينية وخصوصًا مع بكركي، وكلامه من الصرح حول حماية لبنان النموذج والكيان. وهي حركة أيضًا تلتقي مع ما صرّح به السفير المصري ياسر علوي من بكركي سابقًا. مواقف السفيرين، تبدو متقدمة جدًّا عن مواقف “السنيّة السياسية والدينية” التي لا تزال خجولة ومتأخرة عن مواكبة قافلة الدفاع عن الكيان والدستور، في خروج غريب عن الدور التاريخي للسنّة في لبنان. وهذا أحد الأسباب الرئيسية لإدارة الظهر العربي سياسيًّا للبنان.