في الأسابيع الأولى التي تلت دخول لبنان مرحلة الانهيار النقدي والمالي أواخر سنة 2019، كانت أسعار برميل النفط لسلّة خامات أوبيك، تحلّق عند مستويات تجاوزت الـ68 دولارًا أميركيًّا للبرميل، خلال شهر كانون الأوّل. لكنّ أسعار النفط سرعان ما دخلت بعدها في مرحلة طويلة من السقوط الحرّ، فخسرت أكثر من 80% لتصل إلى مستويات تقارب الـ13.94 دولارًا في نيسان 2020. هذا الانخفاض الحادّ في أسعار النفط ساهم إلى حدّ بعيد في التخفيف من تداعيات الإنهيار الحاصل، خصوصًا أنّ استيراد المحروقات ينال القدر الأكبر من فاتورة دعم استيراد السلع الأساسيّة، التي تستنزف احتياطات المصرف المركزي من العملة الصعبة، كما يستنزف قدرًا كبيرًا من مصاريف الميزانيّة العامّة التي تذهب لدعم مؤسسة كهرباء لبنان. علمًا أنّ مصرف لبنان يدعم أيضًا عمليّة استيراد المحروقات لمصلحة مؤسسة كهرباء لبنان، من خلال بيع الدولارات اللازمة لذلك من احتياطاته وفق السعر الرسمي، كما تتأثّر كلفة استيراد المحروقات بالنسبة لمؤسسة الكهرباء بأسعار برميل النفط في الخارج.
هذه المعادلة تغيّرت اليوم بشكل جذري. فأسعار النفط ترتفع بوتيرة متسارعة جدًّا، إذ تجاوز سعر برميل لسلّة خامات أوبيك هذا الأسبوع 63.4 دولارًا، أي ما يقارب 4.54 مرّات سعر البرميل الذي جرى تسجيله في شهر نيسان الماضي. ومع هذا الارتفاع تضاعفت كلفة استيراده بالنسبة لاحتياطات مصرف لبنان، كما تضاعفت كلفته بالنسبة إلى مؤسسة الكهرباء وبالتالي الخزينة.
تشير بعض المصادر المصرفيّة لـ”أساس” إلى أنّ التجارب السابقة مع أسعار السلع المستوردة، تدل على أنّ الضغط على احتياطات مصرف لبنان بعد ارتفاع أسعار النفط عالميًّا، لن ينجم فقط عن زيادة كلفة الدعم المقدم لاستيراد المحروقات
يتوقّع المتابعون أن تعجّل هذه التطوّرات في دخول لبنان مرحلة التقليص السريع للدعم، أو حتى رفعه، بالنظر إلى تسارع استنزاف احتياطات المصرف المركزي. كما من المتوقّع حكمًا أن تتضاعف كلفة مسار رفع الدعم على المواطن، بالنظر إلى تزايد الكلفة المتوقّعة للمحروقات.
يتوقّع معظم الخبراء أن تتابع الأسعار مسارها التصاعدي بشكل حادّ، وصولًا إلى مستويات قد تتجاوز 70 دولارًا للبرميل خلال أشهر، خصوصًا مع اتخاذ الدول المتقدمة اقتصاديًّا قرارات متتالية بتخفيف إجراءات العزل، بالتوازي مع عمليات التلقيح السريعة والواسعة التي تقوم بها. ومع دخول رزمة الحوافز الاقتصاديّة الأميركيّة الجديدة حيّز التنفيذ في الفترة المقبلة، من المرتقب أن يتضاعف الطلب على النفط، ما سيزيد من الضغط على سعر البرميل. مع العلم أنّ عودة الاقتصادات العالميّة إلى التعافي التدريجي، تتوازى اليوم مع استمرار الشحّ في الإمدادات من قبل الدول المصدّرة للنفط، التي كيّفت مستويات الإنتاج والاستثمار النفطي مع معدلات الطلب المنخفضة خلال الفترة الماضية. أما رفع الإنتاج لاحقًا، فسيستلزم بعض الوقت خصوصًا أنّ عمليات الإنتاج والاستثمار البترولي، تحتاج في العادة إلى أشهر للتكيّف مع التحولات المستجدة على مستوى الطلب.
مع الارتفاع الأخير في سعر البرميل، سيكون على الحكومة أو المجلس النيابي لاحقًا، تكييف هذه الأرقام للتتماشى مع الارتفاع المرتقب في حجم التحويلات التي ستخصّص لاستيراد المحروقات للمؤسسة
على مستوى الاقتصاد اللبناني المحلّي، استنزف دعم استيراد المحروقات خلال السنة، ما يقارب 2.7 مليار دولار، خلال الفترة الممتدة بين بداية السنة وشهر تشرين الثاني. وهذه القيمة توازي وحدها ما يقارب 58% من إجماليّ القيمة التي دفعها مصرف لبنان خلال تلك الأشهر، لدعم استيراد السلع الأساسيّة، بما فيها السلع المشمولة بالسلة الغذائيّة، والبالغة نحو 4.62 مليار دولار. مع العلم أنّ هذه القيمة لا تشمل ما يقارب 1.1 مليار دولار من السيولة التي قدمها مصرف لبنان للحكومة، لتمويل عقودها والتزاماتها بالعملات الاجنبيّة، ومنها عقود شراء المحروقات التي تستفيد منها مؤسسة كهرباء لبنان. ولهذا السبب، من المرتقب أن يكون لمسألة تضاعف أسعار النفط مقارنة بأسعار السنة الماضية، أثر كبير على مستوى الضغط على احتياطات مصرف لبنان.
وتشير بعض المصادر المصرفيّة لـ”أساس” إلى أنّ التجارب السابقة مع أسعار السلع المستوردة، تدل على أنّ الضغط على احتياطات مصرف لبنان بعد ارتفاع أسعار النفط عالميًّا، لن ينجم فقط عن زيادة كلفة الدعم المقدم لاستيراد المحروقات. فحتى كلفة استيراد السلع الغذائيّة والأدوية، ستشهد خلال الفترة المقبلة ارتفاعًا ملحوظًا نتيجة ارتفاع أسعار المحروقات، لكون كلفة إنتاج وشحن جميع السلع المستوردة تتأثّر بسرعة بكلفة المحروقات المستعملة في هذه العمليات.
كما تشير هذه المصادر إلى أنّ الانخفاض الكبير الذي شهده الاقتصاد اللبناني في عجز الميزان التجاري خلال السنة الماضية، أي الفارق بين قيمة الصادرات والواردات، لم ينجم فقط عن تراجع الاستهلاك نتيجة ارتفاع سعر الصرف، بل نتج أيضًا عن انخفاض أسعار المشتقات النفطيّة والسلع المستوردة الأخرى، نتيجة انخفاض سعر برميل النفط عالميًّا. ومن المرتقب، بعد ارتفاع فاتورة الاستيراد هذه، أن يشهد عجز الميزان التجاري ارتفاعًا نسبيًّا مقارنة بالعجز الذي جرى تسجيله خلال العام الماضي.
أخيرًا، من المعروف أنّ الموازنة الأخيرة التي أعدتها وزارة الماليّة، لحظت سلفة لمؤسسة كهرباء لبنان بقيمة 1500 مليار ليرة لبنانيّة، وهي سلفة مشابهة لحجم السلفة التي جرى تخصيصها للمؤسسة خلال العام الماضي. ومع الارتفاع الأخير في سعر البرميل، سيكون على الحكومة أو المجلس النيابي لاحقًا، تكييف هذه الأرقام للتتماشى مع الارتفاع المرتقب في حجم التحويلات التي ستخصّص لاستيراد المحروقات للمؤسسة. أما إذا جرى رفع الدعم عن استيراد هذه المحروقات من قبل مصرف لبنان، أو على الأقل تقليصه، فسيكون الارتفاع أقسى من دون شك.
إقرأ أيضاً: مسار إعادة الرسملة: المصارف قطعت نصف الطريق وأكثر… ماذا عن المودعين؟
في الخلاصة، أهم ما في الموضوع سيكون أثر هذه التطورات على مستوى المواطن، الذي ستتآكل قدرته الشرائيّة وستتفاقم مختلف أشكال الأزمات المعيشيّة التي تحاصره.