اللاجئون استعادوا دولاراتهم “الفريش” من “سطو” المصارف

مدة القراءة 7 د

حتّى اللحظة، ما تزال دولارات المساعدات الإنسانيّة الدوليّة، خصوصًا تلك التي تستهدف اللاجئين السوريين، تصبّ في حسابات المصارف اللبنانيّة في الخارج. بينما تختار الغالبية الساحقة من الجمعيات العاملة في هذا المجال، سحب هذه المساعدات من المصارف المحليّة بالليرة وفقًا لسعر صرف منصّة مصرف لبنان، الذي يبلغ 3900 ليرة لبنانيّة للدولار الواحد، وسدادها لمستحقيها وفقًا لهذه المعادلة. من ناحية الجمعيات، هذه الآليّة هي الأكثر شفافيّة بالنسبة إليها، لتفادي دخول متاهات عمليات صرف السوق السوداء، التي يستحيل توثيقها بالفواتير النظاميّة والرسميّة، ولتسهيل عرض البيانات المحاسبيّة أمام المانحين الدوليين بشكل دقيق.

هذه العمليات أدّت مع الوقت إلى اقتطاع معظم قيمة هذه المساعدات، لمصلحة المصارف التي استفادت من فكرة مراكمة هذه الدولارات الطازجة في حساباتها في الخارج، وسدادها محليًّا من حساباتها المحليّة لدى مصرف لبنان، بعد أن يتم سحبها بالليرة وفقًا لآليّة للتعميم 151. لا بل تشير بعض المصادر المصرفيّة لـ”أساس” إلى أنّ هذه الآليّة أدّت عمليًّا إلى مراكمة مئات ملايين الدولارات في حسابات المصارف الموجودة لدى المصارف المراسلة، خلال السنة الماضية، من دون أن يستفيد منها اللاجئون بقيمتها الكاملة، ومن دون أن تصبّ في النهاية في احتياطات مصرف لبنان التي يتم استعمالها حاليًّا لدعم استيراد السلع الأساسيّة.

ومع الوقت اختارت قلّة صغيرة من الجمعيات، الخروج من هذه المعادلة، عبر إيجاد طرق للحصول على هذه الدولارات نقدًا وتوزيعها للمستفيدين باليد، وفوترتها على هذا الأساس. لكنّ هذه المحاولات ظلّت محدودة في حالات استثنائيّة ومحدودة، لكون توزيع هذه المساعدات على اللاجئين كان يتم في العادة ببطاقات الدفع المصرفيّة، عبر السحب من ماكينات الصرف الآلي، أو في متاجر المواد الغذائيّة. وبما أنّ المصارف لم تتعاون لإيجاد طرق لمنح اللاجئين الأموال بالدولار من خلال هذه البطاقات، بل عرقلت هذه المسألة عمدًا، وبما أنّ سحب المبالغ بالدولار وتوزيعها نقدًا باليد بشكل شهري، لم يكن محبّذًا بالنسبة إلى المانحين الأجانب، لأسباب تتعلّق بالشفافيّة الماليّة والمحاسبة، فضلت غالبيّة الجمعيات الحفاظ على صيغة سحب المساعدات بالليرة من المصارف عبر البطاقات المصرفيّة بسعر 3900 ليرة للدولار.

تختار الغالبية الساحقة من الجمعيات العاملة في هذا المجال، سحب هذه المساعدات من المصارف المحليّة بالليرة وفقًا لسعر صرف منصّة مصرف لبنان، الذي يبلغ 3900 ليرة لبنانيّة للدولار الواحد، وسدادها لمستحقيها وفقًا لهذه المعادلة

لكن مع الارتفاع الكبير في سعر الصرف، ارتفع الفارق بين قيمة الدولار النقدي الفعليّة، وسعر صرف المنصّة الذي كان يسحب على أساسه اللاجئون مساعداتهم من المصارف. ومع وصول سعر الصرف إلى مستوياته الحاليّة، كانت الآليّة المتّبعة حاليًّا، تعني اقتصاص نحو 58% من قيمة المساعدات، لمصلحة المصارف وحساباتها في الخارج.

ولهذا السبب بدأت العيون تتفتّح على الموضوع، من الجمعيات التي بدأت تتململ من حجم الخسارة الكبير الذي تتعرّض لها مساعدتها، ومن عرقلة المصارف لأيّ صيغة بديلة، إلى المانحين الدوليين – وأبرزهم البنك الدولي والاتحاد الأوروبي – الذين بدأوا بطرح أسئلة كبيرة عن آليات الدفع، التي أدّت في المحصّلة إلى خسارة اللاجئين معظم قيمة مساعداتهم لمصلحة المصارف. أمّا المتململ الأكبر من هذه الصيغة، فكان مصرف لبنان الذي بدأ بالبحث عن البدائل والسعي لمراسلة الجهات المانحة من خلال الحكومة، للحصول على دولارات المساعدات، ودفعها للاجئين من خلال سعر صرف يبلغ حدود 6240 ليرة للدولار الواحد، أي بالآليّة نفسها التي تفاهم عليها مع وزير الماليّة، بالنسبة لقرض البنك الدولي لمساعدة العائلات الأكثر فقرًا. علمًا أنّ البنك المركزي يعتبر أنّ هذه الصيغة أكثر عدلًا للجميع، لكونها تعتمد سعر صرف أعلى بنسبة 60% من سعر الصرف المعتمد حاليًّا لدفع قيمة المساعدات، وفي الوقت نفسه ستكون احتياطات المصرف المركزي هي المستفيد النهائي من هذه الدولارات، لا المصارف التجاريّة.

مصادر الجمعيات المعنيّة بالموضوع تفيد “أساس”، بأنّ الجهات الدوليّة المانحة راجعت في البداية طلب مصرف لبنان بالنسبة إلى دولارات مصرف لبنان ودرسته، لكنّ التوجّه الذي برز خلال اليومين الماضيين، كان لرفض الطلب رسميًّا من قِبل البنك الدولي والاتحاد الأوروبي، ومن المتوقع أن يصل كتاب رسميّ بهذا الخصوص خلال الأيام المقبلة. وفي الوقت نفسه، تشير المصادر إلى أنّ البنك الدولي والاتحاد الأوروبي، سيرفضان الاستمرار بصيغة الدفع الحاليّة، أي عبر مصادرة الدولارات من قبل المصارف التجاريّة، ودفعها بالليرة وفقًا لسعر المنصّة. أما البديل، فهو صدور قرار يقضي بدفع المساعدات بالدولار نقدًا، والضغط على المصارف لإيجاد آليات الدفع المناسبة لتنفيذ هذا القرار. بمعنًى آخر، ستكون حِقبة وضع اليد على دولارات المساعدات الإنسانيّة من قِبل المصارف قد ولّت إلى غير رجعة.

بدأت العيون تتفتّح على الموضوع، من الجمعيات التي بدأت تتململ من حجم الخسارة الكبير الذي تتعرّض لها مساعدتها، ومن عرقلة المصارف لأيّ صيغة بديلة، إلى المانحين الدوليين – وأبرزهم البنك الدولي والاتحاد الأوروبي – الذين بدأوا بطرح أسئلة كبيرة عن آليات الدفع، التي أدّت في المحصّلة إلى خسارة اللاجئين معظم قيمة مساعداتهم لمصلحة المصارف

وفقًا للمصادر نفسها، السبب المعلن للإصرار على دفع المساعدات بالدولار النقدي، ولرفض البديل المطروح من قبل مصرف لبنان، هو أنّ الدول التي كبّدت دافعي الضرائب لديها كلفة هذه المساعدات، فوّضت البنك الدولي والاتحاد الأوروبي إنفاق الأموال لمساعدة النازحين، وليس لتعويم أيّ نظام مالي على حساب قيمة المساعدات الفعليّة من خلال مصادرة الدولارات ودفعها بالليرة بأقل من قيمتها الفعليّة. مع العلم أنّ الصيغة المطروحة من قبل مصرف لبنان تقتطع نحو ثلث قيمة المساعدات الفعليّة وفقًا للفارق الحالي بين سعر الدولار الفعلي وسعر الصرف الذي سيعتمده مصرف لبنان لسداد قيمة المساعدات بالليرة.

إقرأ أيضاً: مسار إعادة الرسملة: المصارف قطعت نصف الطريق وأكثر… ماذا عن المودعين؟

أما عن مغزى موافقة البنك الدولي سابقًا على الصيغة المقترحة من مصرف لبنان بالنسبة للقرض المخصّص للعائلات الأكثر فقرًا، مقابل رفضه لهذه الصيغة اليوم بالنسبة للمساعدات الإنسانيّة، فتشير المصادر إلى أنّ البنك الدولي يعتبر أنّ دولارات القرض هي في النهاية دين سيسدّده لبنان عاجلًا أم آجلًا من أموال دافعي الضرائب فيه، وهو ما يعطي الدولة اللبنانيّة قوّة تفاوضيّة بالنسبة لآليات الدفع وطريقة الاستعمال. أما المساعدات الإنسانيّة، فهي معونات موجّهة حصرًا لفئات محددة، وخصوصًا اللاجئين، ويجب ألا يملك أيّ طرف صلاحيّة فرض آليّة استعمال هذه الدولارات.

في الوقت الراهن يمثّل البنك الدولي والاتحاد الأوروبي أكبر الجهات المعنيّة بهذه المساعدات، ومن المتوقّع أن يدفع هذا القرار المرتقب سائر المانحين لاتخاذ قرارات مماثلة. النتيجة البديهيّة ستكون ضخّ الدولارات بشكل مباشر في السوق الموازية، بقيمة ستتجاوز مستوى الـ1.5 مليار دولار خلال السنة الحاليّة، وهي قيمة معتبرة قياسًا بسوق الصرف اللبنانيّة، بعد أن كانت هذه الدولارات تذهب لحسابات المصارف المراسلة في الخارج. أما مصرف لبنان، فسيخسر رهانه على الحصول على هذه الدولارات لتمديد فترة الدعم، بعد أن حاول مزاحمة المصارف التجاريّة عليها.

 

مواضيع ذات صلة

هذه هي الإصلاحات المطلوبة في القطاع المصرفيّ (2/2)

مع تعمّق الأزمة اللبنانية، يصبح من الضروري تحليل أوجه القصور في أداء المؤسّسات المصرفية والمالية، وطرح إصلاحات جذرية من شأنها استعادة الثقة المفقودة بين المصارف…

لا نهوض للاقتصاد… قبل إصلاح القطاع المصرفيّ (1/2)

لبنان، الذي كان يوماً يُعرف بأنّه “سويسرا الشرق” بفضل قطاعه المصرفي المتين واقتصاده الديناميكي، يعيش اليوم واحدة من أخطر الأزمات النقدية والاقتصادية في تاريخه. هذه…

مجموعة الـ20: قيود تمنع مواءمة المصالح

اختتمت أعمال قمّة مجموعة العشرين التي عقدت في ريو دي جانيرو يومي 18 و19 تشرين الثاني 2024، فيما يشهد العالم استقطاباً سياسياً متزايداً وعدم استقرار…

آثار النّزوح بالأرقام: كارثة بشريّة واقتصاديّة

لم تتسبّب الهجمات الإسرائيلية المستمرّة على لبنان في إلحاق أضرار مادّية واقتصادية مدمّرة فحسب، بل تسبّبت أيضاً في واحدة من أشدّ أزمات النزوح في تاريخ…