الاتصال الهاتفي الذي تلقّاه رئيس الحكومة المكلف سعد الحريري من نائب وزير الخارجية الروسية ميخائيل بوغدانوف، وما تخلّله، وفق بيان صادر عن الخارجية الروسية، انطوى على أبعاد كشفتها مصادر سياسية قريبة من موسكو لـ”أساس”، أهمها ما يتصل بالصراع المكشوف بشأن تشكيل الحكومة اللبنانية الجديدة.
تقول هذه المصادر إنّ الفقرة التي وردت في البيان الروسي وفيها “التشديد على ضرورة التشكيل السريع لحكومة مهمة برئاسة سعد الحريري”، عكست “انحيازًا” إلى جانب الحريري في المواجهة القائمة بينه وبين رئيس الجمهورية ميشال عون، الذي أسقط كليًّا التوجه لقيام مثل هذه الحكومة. وكشفت المصادر لـ”أساس” أنّ مندوب قصر بعبدا إلى روسيا النائب السابق أمل أبو زيد، نقل في زيارته الأخيرة إلى العاصمة الروسية، رفضَ الرئيس عون المبادرةَ الفرنسية بشأن تشكيل الحكومة، طالبًا في المقابل أن تطرح الخارجية الروسية مبادرة جديدة تنطلق من العناوين التي يعلنها قصر بعبدا و”التيار الوطني الحر” معًا. هذه العناوين تركّز على قيام حكومة سياسية ينال فيها الرئيس عون وتياره حصةً وازنة تؤدي عمليًّا إلى نيل هذا الفريق الثلث المعطّل.
قرار الكرملين الذي يتعلّق بلبنان، وهو ما تعمل بهديه الخارجية الروسية، هو أنّ لبنان مساحة للرعاية الأميركية التي تشمل المبادرة الفرنسية. وليس في وارد الإدارة الروسية الوقوف في وجه هذا الواقع
في المقابل، فإنّ مستشار الرئيس الحريري للشؤون الروسية جورج شعبان، نقل معطيات الرئيس المكلف التي توافرت بعد زيارنه الأخيرة باريس، ولقائه الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون. ووفق هذه المعطيات، فقد انتهت مشاورات العاصمة الفرنسية إلى قرار بأن يزور الحريري قصر بعبدا، وهو ما قام به الأسبوع الماضي.
فلماذا قرّرت الخارجية الروسية إشهار تأييدها للحكومة التي يسعى الحريري إلى تشكيلها، والتي تنطلق من المبادرة الفرنسية؟
تجيب المصادر المشار إليها آنفًا، إلى أنّ قرار الكرملين الذي يتعلّق بلبنان، وهو ما تعمل بهديه الخارجية الروسية، هو أنّ لبنان مساحة للرعاية الأميركية التي تشمل المبادرة الفرنسية. وليس في وارد الإدارة الروسية الوقوف في وجه هذا الواقع، علمًا أنّ خط الاتصالات بين قصر الإليزيه والكرملين مفتوح بشأن لبنان. وقد حرصت باريس في الآونة الأخيرة على الطلب من موسكو معاونتها على فتح مسارب الحل في لبنان، من خلال ما لدى روسيا من علاقات خاصة مع طهران. وقد قام وزير الخارجية الروسية سيرغي لافروف بالفعل، بطرح ملف تشكيل الحكومة اللبنانية خلال المحادثات التي أجراها مع نظيره الإيراني محمد جواد ظريف خلال زيارة الأخير روسيا. لكنّ الموقف الإيراني الذي لا يملك حتى ظريف تغييره، هو إبقاء ملف تشكيل الحكومة اللبنانية بيد الأمين العام لـ”حزب الله” حسن نصرالله، ما يعني أنّ الأولوية وفق توجهات نصرالله، هو الانحياز لحليفه ميشال عون على هذا الصعيد.
وتعتبر المصادر السياسية القريبة من موسكو، أنّ الإدارة الروسية قررت إرسال إشارة إلى بيروت، بأنّ لها حساباتها التي لا تنتظر موافقة طهران، وهذا ما فعلته بشأن تشكيل الحكومة اللبنانية.
لا تخفي المصادر أنّ تعقيدات الوضع اللبناني لا تسمح لجهة واحدة أن تملي مشيئتها. لذا، فهي ترى أنّ تأليف حكومة برئاسة الحريري ووفق المواصفات التي أعلن عنها في كلمته في ذكرى استشهاد والده في 14 الجاري ما يزال بعيد المنال.
تعتبر المصادر السياسية القريبة من موسكو، أنّ الإدارة الروسية قررت إرسال إشارة إلى بيروت، بأنّ لها حساباتها التي لا تنتظر موافقة طهران، وهذا ما فعلته بشأن تشكيل الحكومة اللبنانية
في موازاة ذلك، لم يصل التحرك من قصر بعبدا في اتجاه موسكو إلى مبتغاه. ورأت المصادر ذاتها أنّ الطريقة التي اعتمدها العهد في محاباة الإدارة الروسية على حساب المبادرة الفرنسية، لم تكن موفقة. وما “زاد الطين بلّة” بحسب المصادر، أنّ موفد عون تبرّع بالحديث عن “هبة” روسية للبنان تتعلق باللقاحات الروسية المضادة لفيروس كورونا، وهو حديث غير دقيق. وأعادت المصادر إلى الأذهان، البيان الذي أصدرته السفارة الروسية في بيروت في الأسبوع الأول من الشهر الجاري، وجاء فيه أنّ “المعلومات المتداولة في وسائل الإعلام اللبنانية حول التبرّع المزعوم من السفارة الروسية بـ200 ألف جرعة كهبة للجانب اللبناني، لا تتوافق مع الواقع، وهي عارية من الصحة شكلًا ومضمونًا”، مشددة على أنّ “جميع جوانب توفير اللقاح الروسي، تتطلب مناقشة موضوعية مباشرة مع صندوق الاستثمار الروسي”.
وبحسب المصادر فإنّ كلمة “هبة” ليست واردة في القاموس الروسي، لاسيما وأنّ اللقاح المنتَج هناك، هو نتيجة استثمار روسي – ألماني مشترك، وهو خاضع لقواعد الاستثمار.
في موازاة ذلك، بدا أنّ هناك تغييرًا في العمل الدبلوماسي الروسي في لبنان بعد انتهاء خدمات السفير السابق ألكسندر زاسبيكين، ومجيء السفير الجديد ألكسندر روداكوف. لكنّ المصادر ذاتها ترى أنّ “التغيير”، إذا صحّ التعبير، يتعلق بالشكل وليس بالمضمون. وهذا التغيير الشكلي طاول الإطلالات الإعلامية التي تميّز بها السفير السابق، وهو أمر لم يعد واردًا لدى السفير الحالي، نتيجة التوجيهات التي تلقّاها من خارجية بلاده. لكنّ ذلك لا يمنع من تلمّس آثار هذا التغيير في العلاقات بين موسكو وقصر المختارة. ففي حين كانت الخارجية الروسية تعلن عن اتصال المبعوث الخاص للرئيس الروسي إلى الشرق الأوسط وشمال أفريقيا بالحريري، أعلنت في الوقت نفسه عن اتصال مماثل من بوغدانوف برئيس الحزب التقدمي الاشتراكي وليد جنبلاط، تناول “ضرورة الإسراع في تشكيل الحكومة اللبنانية، وأهمية مبادرة روسيا للمساعدة في هذا المجال، وتواصلها مع الأطراف المؤثّرة، بما يساعد في تخطي العراقيل المصطنعة التي تعطل الولادة الحكومية”. وقد انتهى بيان الخارجية الروسية إلى القول: إنّ بوغدانوف وجّه دعوة إلى جنبلاط لزيارة موسكو، وقد وعد الأخير “بتلبيتها حال تلقّيه التطعيم الخاص بوباء الكورونا، وتوافر الظروف الصحيّة المناسبة”.
إقرأ أيضاً: ظريف يقطع الطريق على لقاءات الحريري في الدوحة
يبقى من المفيد الإشارة إلى أنّ عودة الحرارة إلى العلاقات التاريخية بين قصر المختارة والكرملين، هو من بين المؤشرات إلى أنّ هناك شيئًا يتبدّل في العلاقات الدولية، والتي يبدو أنّ العهد يعيش خارجها كليًّا.