في نهار كهذا النهار قبل سبعة أعوام (18 شباط 2014)، لفظَ قلبُ أنسي الحاج كلمة من حرفين: “لن”. لن أنبض بعد اليوم وقد أنهكني المسير. أنهكني تمرّدًا في الشعر قبل الاستكانة مع “الرسولة…”، فالصمت الطويل حتى “الوليمة”. وأنهكني التمرّد مقالةً وسخطًا على البلاد، أيضًا قبل أن أصمت طويلًا مذ كتبتُ “كان لي وطن”، مطلعَ حرب لبنان، حتى عدتُ في التسعينيات وكان السخط لم يزل، وإن غير لجوج وأكثر مداراة. وقد اكتويت عشقًا وولعًا بالمرأة حتى اللحظة الأخيرة، قبل أن يبطحني المرض، مستحضرًا إيماني القديم، العائد، بعجائب القدّيسة ريتا، وبشفاعتها لدى يسوع المسيح. بل وتناولته قربانةً من كأس كاهنٍ أحضروه، ليمشحَني “مشحةَ الموتى” وأنا بعدُ حيّ، فيا لَلْهول. أحقًّا أنّ جوزيف ق. دعا للصلاة وإيقاد شموع تحت منزلي؟ أحقًّا؟ على أيّ حال، غدًا أو بعده سوف أدرك ذلك “الخفيّ”. غدًا في قفصي الخشبيّ افتضّ “السرّ الكبير”، سرًّا لعله النور الإلهيّ، أو لعله هباء كون يبتلع أبناءه، يبتلعهم طاحونةَ لحم وعظام.
هكذا تهيّأ لي صوت شاعر “لن” (1960)، و”الرأس المقطوع” (1961)، و”ماضي الأيّام الآتية” (1965)، و”ماذا صنعتَ بالذهب ماذا فعلتَ بالوردة” (1970)، و”الرسولة بشَعرها الطويل حتى الينابيع” (1975)، إلى ديوانه الأخير “الوليمة” (1994). مجموعات لم تترك في زعمي، على عكس ما يُظنّ، أثرًا كبيرًا على الشعر الحديث (قياسًا إلى بعض رفاقه كالماغوط مثلًا). وهذا لا ينتقص من إبداعيتها، بل يستدعي فهمَ خصوصيّتها وما شكّل بعضها من “قطيعة أدبيّة” أو معرفيّة في الشعر العربيّ. هذا حين كان لنثر الرجل، سواء مقالته الأسبوعيّة العصبيّة، غضبًا أو حبًّا، في ملحق “النهار” ستّينيات القرن الماضي وسبعينياته، أو”خواتم” في “الناقد” فـ”الأخبار”، منذ التسعينيات وحتّى رحيله، أثر كبير على الثقافة والصحافة والأدب واللغة. ناهيك عن حضوره الشخصيّ الواسع، وترؤسه منابر ثقافيّة وسياسيّة (“النهار” و”النهار العربيّ والدوليّ” ثمّ مستشارًا للتحرير في “الأخبار”) واجتماعيّة (“الحسناء”)، ورعايته أصواتًا وفنّانين وشعراء ومريدين ومريدات.
أعوام مرّت ولم نقرأ في كتاب أو تحقيق أو رسالة جامعيّة، بعضًا من سيرة الشاعرالعاشق والدونجوان، الشاعر الشجاع والمحدّث وأحد أعمدة مجلة “شعر”، كما لو أنّ السيرة الشخصيّة في شرقنا، حديقة خاصة من العيب وربما العار تسلّقها واكتناه كنوزها
بعد سبع سنوات على رحيله نكاد لا نعرف شيئًا عن حياة أحد أبرز “روّاد قصيدة النثر”، ونجومها المنافحين عنها في وجه المحافظة الأدبيّة. كيف نظر أنسي إلى زملائه الشعراء والكتّاب، إلى الساسة وأصحاب المنابر، حيث عمل وأمضى سنيّ عمره؟ كيف عاش الشاعر حياته “السريّة”: نزق الرجل والرغبة العارمة والرهافة القصوى، مع الحنان والوجدان العميق المشبّع بنضارة الرؤية، وهي جميعًا منابع شعره “الملعون”، المتمرّد، الحارق بنار التجدّد، قبل أن يحوّله الحبّ (عشقُه فيروز، مثلًا، وصوتها وسحره) نحو صوفيّة تمرّ بالحبيبة وصولًا الى الاتحاد بها وعبرها مع الطبيعة الأمّ، وربما الإلهة الأم، كما يعبّر في ديوانه “الرسولة…” والذي هو ثمرة عشقه بهيّة الصوت.
رسائل غرام أنسي الحاج لغادة السمّان
العام 2016، بعد نحو عامين على رحيله، نشرت غادة السمّان تسعَ رسائل غرام تسلّمتها من الشاعر يومَ كان في الـ26 من عمره، متزوّجًا ووالدًا. وهي أديبة حسناء تتوهّج فتنةً وذكاءً وحياةً بوهيميّة (في إحدى صورها تقود درّاجة نارية، ?يسبا، في بيروت). قامت قيامة بعض “الوسط” الثقافيّ” أن كيف لها أن “تفضح” العاشق وتميط اللثام عن حكاية غرام، بل وغرام يهدّد العاشق في خضمّه محبوبته، في واحدة من الرسائل، بالانتحار ما لم تتخلّ عن “غموضها وسخريتها وشكّها (في “حاجته إليها كإنسانة لا كشيء”) وانتقامها الدفين”.
أعوام مرّت ولم نقرأ في كتاب أو تحقيق أو رسالة جامعيّة، بعضًا من سيرة الشاعرالعاشق والدونجوان، الشاعر الشجاع والمحدّث وأحد أعمدة مجلة “شعر”، كما لو أنّ السيرة الشخصيّة في شرقنا، حديقة خاصة من العيب وربما العار تسلّقها واكتناه كنوزها. وأما سيرة الحبّ فلعلها سرّ الأسرار، وخجل الكاتب إذ يرسم لذاته صورة عامّة، ساعيًا إلى تكريسها كجزء من سلطته وسطوته. وهو ما فعلَه أنسي حين أحاط حياته بستار من الكتمان، عارفًا ربما أنّ مؤرّخًا وباحثًا رزينًا سيصل يومًا إلى محطّاتها ووقائعها. ألم يكتب هو عن باخ، “ناسك الموسيقى”: “لو عُرفتْ شخصيّته البشرية عن كثَب، بشغف، بتنقيب، لاكتسبت موسيقاه أبعادًا في خيالنا أشدّ حرارة”؟ ليضيف أنّ “الفنّان مهمٌّ كفنّه، ولا نقدر أن نعرف مَن أبو الآخر، الإنسان في الفنّان أم الفنّان في الإنسان. بلى، شخصية الفنان الحميمة وخصوصياته، جوهرية في تقديم فنّه، من نوع الجوهر الذي قد يشكّل خطرًا على نفسه”.
بعد رحيل أنسي قال أدونيس: يا ليته لم ينتقل من جهة الشيطان إلى حيث الملاك: “لَربحَ الشعرُ أكثر”. لكنّ أنسي كان قد حسمَ المسألة قبل عقود
سبع سنوات مرّت وما زلنا لا نعرف الكثير، ولا القليل، عن ظروف تراجع الحاج عن دعوته مثلًا إلى الحريّة الجنسيّة والحلم بـ”تأسيس مجلة إيروسيّة”، نحو شكل من المحافظة والاستغراق في حالات عشق لعله اقرب إلى العذريّ. أهي السنّ وحدها وراء انتقاله من النظرة الفرويديّة نحو مسيحانيّة صوفيّة على شيء من الوثنيّة؟ لا نعرف إذًا الظروف النفسية والأحداث التي انعطفت به من موقع إلى آخر. من الإلحاد والنظرة الماديّة والعنف التدميريّ على طريقة أنطونان آرتو، الكاتب والمسرحيّ الفرنسيّ، نحو الصفاء والإيمان انطلاقًا من التراث “المرذول” ذاته، ومن تأمّلاته وإشراقاته، لكن خصوصًا بعد “أعجوبتين” اجترحتهما له القديسة ريتا، ليعود رويدًا إلى المسيح/الإله. كما نجهل ما يدفع متنوّرًا متشبّثًا بقِيم الحداثة الغربية، للقول إنّ الديمقراطية لا تنفع بلدنا، وربما شرقنا، وإنّ ما نحتاجه هو فاشيستي: “إذا أُريد لبلدنا أن يبدأ بأن يصبح دولة فلا بدّ له من حكم فاشيستي. ماذا أقصد بفاشيستي؟ أقصد بشير الجميّل سابقًا وميشال عون لاحقًا. بلدٌ سائب كلبنان لا يقوّمه غير دكتاتور. لا نخف من الدكتاتوريّة. يذهب الدكتاتور وتعود الفوضى التي نسمّيها حريّة” (“الأخبار”، 2013).
أدونيس: يا ليته لم ينتقل من جهة الشيطان إلى حيث الملاك
هنا يحضرني حازم صاغية في مقال عن صحيفتين لبنانيّتين، إحداهما “النهار”، متوقّفًا عند “الغضب الإنشائيّ (والفائض) لأنسي الحاج”، والذي “لم يُفهم له سبب أو علّة”. ليضيف صاغية: “وأمّا “الثورة” المنشودة (في مقالات الحاج في”الملحق”) فلم يُعرف الغرض منها ولا أشير ولو تلميحًا إلى طبيعتها وتمثيلها وقواها”. فهل كان الغضب على غياب حاكم فاشيستيّ؟ بالطبع لا، وما كتبه الحاج بعد عقود في لحظة “غضب” أيضًا، لا يختصر فكره ولا بالطبع روح شعره، ونزقه، وتوق المغامرة، والتطلّع نحو مطلقات الجمال سواء الطبيعيّ أو الوثنيّ كما في صنائع مايكل أنج للكاتدرائيات، أو جسد المرأة في حالاته اللا تُحصى، مرورًا بالمتصوّفة والقدّيسات، ووصولًا إلى الحريّة.. مطلقه الأوّل على ما أحسب.
أسئلة وأسئلة في ذكرى غياب الرجل الذي منح مع شعراء الحداثة، منذ جبران والريحاني، مرورًا بـ”مفكّرة” أمين نخلة “الريفيّة”/الحداثيّة، منحَ اللغة العربيّة جزالة، واقتصادًا في الإنشاء، وعصبًا قشيبًا نقلته “النهار” وصحافيّوها إلى أغلب المنابر العربيّة، وإن طغت الشكلانيّة أحيانًا وجمالياتها (حدّ التقديس) على مضمون الخبر أو المقالة، سواء السياسية أو الثقافية أو حتى الرياضيّة. ولعلّ في بعض تحوّلاته، وإن ليست جذريّة (فكما لم يكن إلحاده عقائديًّا، لم يكن إيمانه أيضًا عقائديًّا، بل مفتوح على أمداء الحريّة والخبرة الشخصيّة) شيئًا من أزمات مجتمعه ونكوصه نحو فوضى لم يعد يراها خلّاقة في مواجهة الواقع وسلطاته، وقلقًا على المصير الجمعيّ ما عاد يراه محفّزًا على التمرّد الفرديّ من أجل أرض جديدة. أرض رآها بعيدة المنال وسط “سلام وطنه المعقَّد”، وانفجار الشرق “خريفًا” كأن لا ربيع في أفقه، من دون أن ننسى صراعه الشخصيّ مع السرطان الذي لا بدّ زاده خيبات ويأسًا.
إقرأ أيضاً: والدة لقمان سليم: لا أسامح والله سيثأر
بعد رحيل أنسي قال أدونيس: يا ليته لم ينتقل من جهة الشيطان إلى حيث الملاك: “لَربحَ الشعرُ أكثر”. لكنّ أنسي كان قد حسمَ المسألة قبل عقود. ويومًا استذكر حيرة يوسف الخال وأدونيس إزاءه، إذ كيف لمن كتبَ “حين يُعزَف النشيد الوطنيّ سأبقى جالسًا” وقد طبّق قوله، وكتب “سأمشي على جثّة التراث” وقد فعلَ بشعره الرجيم (شعره الأوّل)، كيف له أن يُعجب بـ”فنّ يمجّد الوطن ويكرّس الأخلاق التقليديّة ويغنّي للعسكر والعائلة (أي فنُّ الأخوين رحباني وفيروز)” يسأل الشاعر ويجيب: “نشأت بيني وبين نفسي أزمة حسمتها بالتسوية الآتية: فلأقبلْ أنّه يسكنني شيطان بقربه ملاك”. ولكنّ الثاني سحقَ الأوّل يا أنسي، بالبراءة مَرّةً، والأمل بخلاص أخرويّ مرّة، وبخلطِ البارود بالماء وصولًا إلى استبدال القرنين بجناحين وارفين.