سلمى مرشاق: اجعلوا من لقمان حلماً وليس كابوساً..

مدة القراءة 4 د

واجهت والدة لقمان سليم الحقد بالفكر حين أجابت عن سؤال حول العمل الذي يمكن أن يشفي غليلها، فكان ردّها: “ما يشفي غليلي أن يكون الجيل الجديد عقله واسع وأن تعرفوا الحوار وأن تحقّقوا نموذج لقمان الذي كان يحلم فيه”، وأضافت: “هم جعلوه كابوساً لكن أنتم إجعلوه حلماً وارتفعوا به”، وشدّدت على ضرورة “الحوار وألا يكون السلاح لغتكم”.

هو درس في تقبّل الرأي الآخر لقّنته العائلة. بل قل هو درس في تقبّل القتل، وتحويل الرثاء إلى خطاب للسلام، ودفن الأحقاد، كما دعا يوماً الراحل الكبير غسان تويني، يوم دفن نجله جبران.

قليلون من لهم المقدرة على كسر سيف الحزن وبتر حزن القلب. فالإنسان يسقط عادةً أمام هول الفاجعة، ويتطلّب الثبات نفوسًا شامخة صلبة ونادرة، مثل تلك التي أظهرتها والدة لقمان سليم طوال أسبوع منذ وفاة ابنها لقمان.

سلمى مرشاق توّجت صورة مثالية وملائكية للأم. فإذا كانت فكرة الأمومة هي فكرة شعرية، إلا أنّ الشعر تجلّى في حديث سلمى مرشاق بأعلى درجات البلاغة. فها هي تواجه الظلم والحقد بالطيبة والمحبة، وتواجه كاتم الصوت بالكلمة والعقل. بشعرها الأبيض وسيرها الهادئ البطيء تطلّ سلمى كأنّها قصيدة وحكاية خارجة من الأساطير. كتلك الجدة التي تلفّ أحفادها وتجلس لتخبرهم الحكايا والحِكَم. هدوء لم يقوَ حتّى قتل فلذة كبدها أن يهزّه.

هو درس في تقبّل الرأي الآخر لقّنته العائلة. بل قل هو درس في تقبّل القتل، وتحويل الرثاء إلى خطاب للسلام، ودفن الأحقاد، كما دعا يوماً الراحل الكبير غسان تويني، يوم دفن نجله جبران

تذكرنا بجداتنا وروائحهنّ العطرة وأصواتهنّ الحنونة. إنّها المرأة / الأم الحاضنة كالأرض الخصبة مانحة الحياة في وجه الموت. إنّها المرأة المرضعة التي تعطي حليبها للنمو والتفتّح. شجرة راسخة معطاءة تضرب بجذورها في العمق وترتفع نحو السماء. تقول: “تبرّعوا بأعضائي واحرقوا بقية جسدي وازرعوا فيه شجرة”، لتنبت وتبقى في الكون، على ما قالت في مقابلة سابقة مع الزميل جوزف عيساوي. عائلة لديها من الفلسفة والمنطق ما يكفي لتكون منارة للحرية والإنسانية وأممية الفكر. تقول في مديح حرية التعبير: “هل نقتل بعضنا البعض إذا اختلفنا في الرأي؟ هذا معناه أنّنا وحوش”، تقول في مقابلة أخرى.

الأم الحزينة، بعقل هادىء، طلبت من الشباب اللبناني إذا كانوا فعلاً يريدون وطناً، الاستمرار في المبادئ التي ناضل من أجلها ابنها واقتنع بها: “الحمل ثقيل عليكم، وأنا أتمنى عليكم أن تفكّروا وألا يكون عقلكم محدوداً، تقبّلوا الحوار والتنوّع واستعملوا العقل والمنطق فقط، فالسلاح لا يفيد البلاد، أنا كأم لم يفدني، ولم يفد شقيق لقمان ولا شقيقته، أفقدني ابني، وأضاع لكم صديقكم”، وتابعت: “حكّموا عقلكم، وناقشوا، وحاوروا، لتؤسّسوا وطناً يليق بكم وبلقمان”.

الأم الحزينة، بعقل هادىء، طلبت من الشباب اللبناني إذا كانوا فعلاً يريدون وطناً، الاستمرار في المبادئ التي ناضل من أجلها ابنها واقتنع بها

ثيمة التأبين فيها من المسرحة التراجيدية ما يكفي: بطولةً وخلوداً وتراتيلَ. نقشت هي وشقيقته رشا على قبره: “هنا يحيا في الفردوس الأعلى بطل من لبنان، 17 تموز 1962، 4 شباط 2021”.

الحياة كانت تليق بلقمان. والمراسم الوداعية كانت تليق بمسيرته وكانت تشبهه: معبّرة عن فكره ومبادئه شكلًا ولغة واحتفالية. حشود من المعزين غصت بهم دارة المغدور  في حارة حريك وتليت الكلمات بهدوء وذرفت الدموع من أصدقائه الذين حملوا لافتات “كلنا لقمان” في إشارة إلى متابعة مسيرته. ركزت المراسم الوداعية على ثيمة أنّ لقمان، وإن اغتيل جسده سيبقى أثره وعمله وحضوره: “فليكن موت ابنك حياة لطالبيها، لهفي على أمة قتلت راعيها، ناح الحمام على تشتت أهليها، تعالوا إلى مريم أمه نعزيها”، أنشدت الترتيلة.

إقرأ أيضاً: لقمان سليم: هل هو اغتيال الثقافة البديلة؟

قال السفير الألماني عنه إنّه شخصية “لامعة” ويجب أن “نتذكّره” دومًا خصوصاً أنّ ميدان عمل لقمان كان “حول الذاكرة والتذكر والنسيان”، ولذلك على النصب التذكاري كتب أهله: “لقمان حيّ”، وهو الشعار المناقض لعملية الإغتيال. ووصفت السفيرة الأمريكية عملية الاغتيال بـ”الصادمة” وبأنّها “بربرية وغير مقبولة”. وقال السفير البريطاني إنّ “لبنان في القرن الواحد والعشرون لا يمكن أن يسمح بما حدث ولصوت السلاح أن يتكلم ويهدّد حرية التعبير”. وأشار جميع السفراء والديبلوماسيين على أهمية المحاسبة الشفافة لمعرفة الحقيقة والوصول إلى العدالة من خلال التحقيق.

وحدها سلمى مرشاق قالت كلاماً مختلفاً، لا مكان فيه إلا لرؤية مستقبلية، من امرأة ولدت على أطراف القرن التاسع عشر، وهاي هي في القرن الواحد والعشرين، تعطينا دروساً في المستقبل، في الرقيّ والبلاغة والإنسانية.

مواضيع ذات صلة

مع وليد جنبلاط في يوم الحرّيّة

عند كلّ مفترق من ذاكرتنا الوطنية العميقة يقف وليد جنبلاط. نذكره كما العاصفة التي هبّت في قريطم، وهو الشجاع المقدام الذي حمل بين يديه دم…

طفل سورية الخارج من الكهف

“هذي البلاد شقّة مفروشة يملكها شخص يسمّى عنترة  يسكر طوال الليل عند بابها ويجمع الإيجار من سكّانها ويطلب الزواج من نسوانها ويطلق النار على الأشجار…

سوريا: أحمد الشّرع.. أو الفوضى؟

قبل 36 عاماً قال الموفد الأميركي ريتشارد مورفي للقادة المسيحيين: “مخايل الضاهر أو الفوضى”؟ أي إمّا القبول بمخايل الضاهر رئيساً للجمهورية وإمّا الغرق في الفوضى،…

السّوداني يراسل إيران عبر السعودية

 لم يتأخّر رئيس الوزراء العراقي محمد شياع السوداني ومعه قادة القوى السياسية في قراءة الرسائل المترتّبة على المتغيّرات التي حصلت على الساحة السورية وهروب رئيس…