جاهز أنا للبكاء لكنّي سأغنّي.
(كمال الرياحي)
سأظلّ طوال حياتي أذكر ليلة تلقّيت استغاثة صوتية من رشا الأمير على هاتفي. لُقمان مختفٍ إفعل شيئاً رجاءً إذا استطعت. ليلة التخبّط في العجز ومرافقة وجه لُقمان في وجوه المُرسلين لتصفيته، هو العصيّ على التغييب لشدّ ما امتلأ حياةً.
لطالما رَدّدتُ أنّ الذين نحبهم لا يَرحلون عندما يَرحلون إلّا إلى قلوبِنا، حيث يَحيون ما دُمنا نتنفّس. وكان ثمة ما يُنبئ من اللحظة الأولى أنهم سيقتلون لُقمان، وأنّ الإسقاط المُبكر في اليد يُمثّل العجز أمام مأساة اللبنانيين، الأحرار أمثاله، عن فعل شيء لإنقاذ أنفسهم وشعبهم ووطنهم من جماعة تؤمن بالعنف وتبرّره بالمقدّس، كي تبقى مرتاحة الضمير في خدمة امبراطورية بعيدة، تتلقى منها أنواع الدعم والتجهيز والمدَد.
“القتيل يعرف قاتلَه قبلَ وقوعِ الجريمة”، كتب مرةً لًقمان. وفي أخرى أنّ ثمةً أعداءً “لا يستحقون تسميتهم” ، و”لا نريد تحقيقهم، نعرف القتلة”، قالت شقيقته رشا. ما لا نعرفه جميعاً ما العمل مع هؤلاء، غير الإقتداء جميعاً بشجاعة لُقمان في قولة الحقّ والدفاع عن شعبنا وبلادنا؟ هنا مكمن العجز الكبير.
الجماعة متمسكة بسلاحها، ليس دفاعاً عن الشيعة كما تزعم، بل لتدافع عن نفسها من الشيعة الذين سيتقدّم فيهم إلى الصفّ الأول المحترَمون الذين قيمتهم في ذواتهم، المفكّرون والمثقفون اللامعون في الرأي والرؤية، المنفتحون على العالم والحداثة، النهضويون وما أكثرهم بين الشيعة مقارنة بفقر طوائف أخرى إلى أمثالهم!
ما العمل مع جماعة جرّبنا معها التظاهر شارعاً مقابل شارع، ثم التحالف الرباعي ولم تتوقف عن القتل؟
جرّبنا معها القرارات الدولية، التحقيق الدولي والمحكمة الدولية، ولم تتوقف عن القتل.
جرّبنا معها الصمود، الفوز عليها في الانتخابات النيابية، ولم تتوقف عن القتل.
جرّبنا معها اتفاق الدوحة الذي نصّ في بندٍ غير مُعلن على التوقف عن القتل، ولم تتوقف عن القتل. بل تقطّع لاحقاً واحترق على الطريق محمد شطح ووسام الحسن.
جرّبنا طاولات الحوار في بعبدا ومجلس النواب، ولم تتوقف عن القتل.
أخيراً جرّبنا ما سُمّيَ بـ”ربط نزاع” من ضمن “تسوية رئاسية”، وَضَعت رئاسة جمهورية لبنان في جيبها الصغير، ولم تتوقف عن القتل. ( ألم يسقط “ربط النزاع” هذا الذي عقدتموه مع القتلة، باغتيال لُقمان سليم يا قادة يا زعماء طوائف مناهضين مُدّعين الدفاع عن الحريّة ولبنان؟)
أخالُ لُقمان واجه مصيره برصاص القتلة بشجاعته المعهودة وهو يبحث عن جواب قابلٍ للتحقق لهذه المعضلة: ما العمل مع القتلة، وقد جعلوا افتراض التعايش معهم مستحيلاً؟
إلّا أن لُقمان لم يُقتل بالرصاصات الخمس. إنما قتلته الرثاثة والرِعاعية اللتين تشيعهما الجماعة المتمسكة بسلاحها، ليس دفاعاً عن الشيعة كما تزعم لهم، بل لتدافع عن نفسها من الشيعة في وجه الذين سيتقدّم فيهم إلى الصفّ الأول المحترَمون الذين قيمتهم في ذواتهم، المفكّرون والمثقفون اللامعون في الرأي والرؤية، المنفتحون على العالم والحداثة، النهضويون وما أكثرهم بين الشيعة مقارنة بفقر طوائف أخرى إلى أمثالهم. عاريةً من سلاحها لن تستطيع الشلل الخارجة من قعر المجتمع أن تسيّر الطائفة الحرة الأبيّة بالسوط وصوت الراعي فتسير.
لُقمان سليم تركيبة مُختلفة. عندما أشيع خبر اغتياله عرّف بعضهم عنه بـ”الناشط السياسي” وهو كذلك فعلاً ولكنه ليس ناشطاً سياسياً فحسب، والفرق كبير. إنه فوق هذه الصفة سياسي ومفكر ومثقف كبير خلّاق، ومترجم قلّ نظيره، عندما تسمعه أو تقرأ تعريبه للكاتب الفرنسي إميل سيوران أو حتى تغريدات له يُذهلك ثراؤه اللغوي، وهو صاحب دار نشر “الجديد”، من الدُور الأجرأ والأجمل ومنشئ مؤسسات وموثّق ذاكرة حروب لبنان والباحث في قضايا العرب والعالم. ليس كل الناس مثل كل الناس. ليس أحدٌ مثل لُقمان سليم. حقدوا عليه وقتلوه لأنه يذكّر بوضاعتهم الفكرية والثقافية. أما هو فكان الأرجح يعطف عليهم ولفرط تفوّقه عليهم وشجاعته لم يكن يخطر بباله أنّهم قد يعبرون يوماً الخطّ الفاصل بين الرغبة في التخلص من النبيل الذي يجسّده وبين إطلاق الرصاص عليه.
لم يكن يُؤمن لقمان بطبقية هو الأبعد عنها، ولكن لا مفرّ من اعتراف بالوراثة عن الأهل، والسياق يقود إلى تذكير بأنّه نجل النائب السابق عن بيروت محسن سليم، أحد أهمّ محامي لبنان للجيل السابق، مع بهيج تقي الدين وسليم العثمان ومخايل الضاهر وسواهم. مكتبه كان في المعرض، وشقيقه عمّ لقمان كان القاضي عبد الكريم سليم أنزه وأشرف قضاة لبنان، كما قال عارفو العائلة النبيلة التي ظهرت لمحات على محطات التلفزة بعد الجريمة.
إقرأ أيضاً: لماذا “همس” المستقبل والإشتراكي والقوات عن قتل لقمان؟
هذه النوعية المرتّبة من الناس لا يطيقها قتلة لقمان. يريدون بلداً على مثال جهلهم وجحيمهم الداخلية. يرفضون أن يرتقوا ويحقدون على من ينشرون الرقيّ في المدن والكتب والجامعات ومراكز البحث والتأليف.
لا يريدون لبناناً يُشبه لُقمان سليم وعائلته ورفقائه.