في لحظة لبنانية انهيارية بامتياز اغتيل لقمان سليم. ففي ظلّ تفاقم الأزمة المالية وتبعاتها الاجتماعية وفي ظلّ انسداد الأفق السياسي المتمثّل أساساً في استعصاء تشكيل الحكومة، اغتيل لقمان، الوجه السياسي والثقافي والفنّي اللبناني، بكل ما تحمله هذه الصفة من تاريخ ومعنى.
كلّ ذلك يجعل اغتياله بمثابة إمعان في الإنهيار وإمعان في قتل السياسة وإمكانات أن تنتج حلولاً للأزمات الواقعة. وفي حيّز زمني أوسع يأتي اغتياله بمثابة إمعان متواصل وحثيث لاغتيال سلام لبنان الذي عمل لقمان من خلال توثيقه حوادث الحروب اللبنانية وضحاياها الموتى والمفقودين على ترسيخه في الوعي الجمعي للبنانيين كنقيض للاقتتال والعنف بينهم.
ومن يقول لبنان يقول محيطه أيضاً، ولذلك كانت عين لقمان وقلبه وعقله في سوريا مع شعبها، حاملاً مآسيه وصور قتلاه وحاجاته الضئيلة، عابراً حدود وطنه إلى بلاد اللجوء القريبة والبعيدة.
كان لقمان دار نشر ومكتبة وفيلماً وكتاباً ولم يكن مخزناً للسلاح ولا منصّة للصواريخ ولا إذاعة لبثّ الأحقاد وعقد النقص والكراهية، كان يحمل رأساً مثقلاً بالتجربة والحجج والموسيقى… وفي لبنان، البلد الذي لم يعادِ الجمال، بل استدعاه وأبقاه حصناً أمام البشاعة والظلامية اللتين يسعى قتلة لقمان بين آخرين إلى جعلها وجهه الوحيد.
إنّها التجربة اللبنانية بمعناها الواسع، تتلقّى الرصاصات الخمس التي اخترقت رأس وجسد لقمان، وإنّهم المدافعون عن تلك التجربة التاريخية والساعون لأخذها إلى مطارح أرحب وأكثر عدالة ومساواة وحرّية، من تلقوا تلك الرصاصات الغادرة أيضاً، ولذلك فمن قتل لقمان لم يقتل شخصاً بعينه إنمّا أمعن في قتل لبنان الذي رمز إليه لقمان.
في حيّز زمني أوسع يأتي اغتياله بمثابة إمعان متواصل وحثيث لاغتيال سلام لبنان الذي عمل لقمان من خلال توثيقه حوادث الحروب اللبنانية وضحاياها الموتى والمفقودين على ترسيخه في الوعي الجمعي للبنانيين كنقيض للاقتتال والعنف بينهم
غير أنّ لحظة اغتيال لقمان هي لحظة كثيفة سياسياً وشاهدة على تحوّلات كبرى في لبنان والمنطقة والعالم. ولذلك لا يمكن عزل اغتياله عن لحظته بأي شكل من الأشكال، خصوصاً أنّه شخصية سياسية واغتيل في جغرافيا سياسية أيضاً، وهي جغرافيا في قلب تلك التحوّلات الكبرى.
ولعلّ الإدانة الدولية الواسعة لعملية اغتياله، وخصوصاً الموقفين الفرنسي والأميركي، دليلٌ على الاهتمام الدولي بلبنان في إطار تلك التحوّلات الكبرى، والتي يعدّ أهمّها على الإطلاق انتخاب رئيس جديد للولايات المتحدة عبّر منذ الأيام الأولى لانتخابه عن رغبته في العودة إلى الاتفاق النووي مع إيران الموقّع في العام 2015 والذي انسحب منه سلفه دونالد ترامب في العام 2018.
إذاً نحن في لحظة انسداد أفق سياسي لكنّها لحظة مفتوحة على دينامية سياسيّة دولية جديدة لا تستثني لبنان بل على العكس فإنّ لبنان في صلبها نظراً إلى اجتماع كلّ عناصر هذه الدينامية فيه. فمن جهة هناك النفوذ السياسي والأمني العسكري الإيراني المباشر والواسع فيه عبر حزب الله. ومن جهة ثانية هناك الحضور السياسي والديبلوماسي الأميركي وأدوات ضغطه الكثيرة.
بالموازاة، وبين الحضورين الآنفين، هناك الحضور الديبلوماسي والسياسي الفرنسي التاريخي والراسخ وقد تجسّد في “المبادرة الفرنسية” التي تشكّل في إطارها الإقليمي الدولي الواسع جزءاً أو ارتداداً لدور الوساطة الذي عبّر الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون عن استعداده للقيام به بين واشنطن وطهران لإعادة أحياء الاتفاق النووي.
لكنّ المعلوم أيضاً أنّ هذه الدينامية السياسية الدولية الجديدة لا تحصل على البارد ولاسيّما من قبل الجانب الإيراني الذي عمد وفور انتخاب جو بايدن إلى التصعيد نووياً ودبلوماسياً وأمنياً في المنطقة والعالم لدفع الملف النووي إلى قائمة اهتمامات الإدارة الجديدة ولاختبار ردود أفعالها… وكذلك لتقليص حجم التنازلات التي سترغم طهران على تقديمها، خصوصاً أنّها في موقع أضعف من العام 2015 في ظلّ تبعات العقوبات الاقتصادية عليها، وتبدّل الخريطة الجيوسياسية في المنطقة في أعقاب اتفاقات السلام أو التطبيع العربية الاسرائيلية والتي تعدّ عاملاً حاسماً في اتجاهات التفاوض بين الإدارة الديموقراطية وحكومة حسن روحاني. وهو ما يتمثّل في رغبة واشنطن في ضمّ حلفائها في المنطقة إلى طاولة المفاوضات وبتأييد فرنسي، الأمر الذي ترفضه طهران التي لم توفّر باريس من هجومها.
إذاً نحن في لحظة انسداد أفق سياسي لكنّها لحظة مفتوحة على دينامية سياسيّة دولية جديدة لا تستثني لبنان بل على العكس فإنّ لبنان في صلبها نظراً إلى اجتماع كلّ عناصر هذه الدينامية فيه
هذه المتغيرات كلّها تطرح أسئلة أساسية في قراءة الإطار السياسي العريض الذي اغتيل ضمنه لقمان سليم، وهو إطار متحرّك بين حدّي التعويل الإيراني على انتخاب بايدن وفي الوقت نفسه تصعيد طهران لتحسين شروطها التفاوضية مع الغرب.
في الحيّز اللبناني فإنّ هذه المتغيرات تعني أن حزب الله يستعدّ لمرحلة جديدة في لبنان يتوقّع أن يكون نفوذه فيها أقوى، باعتبار أنّ محصّلة الاستراتيجية الأميركية للتعامل مع إيران هي العودة الى الاتفاق النووي بغض النظر عن المسار الصعب والمتعرّج للمفاوضات الأميركية – الإيرانية حول العناوين الأخرى.
وفي نهاية المطاف فإنّ عودة كهذه مريحة لحزب الله من حيث المبدأ، لكن مع فارق أنّنا لسنا في العام 2015، أي أنّه يفترض النظر إلى المتغيرات الكثيرة التي طرأت في المنطقة من ذلك الحين، وهي متغيرات ستنعكس على لبنان حكماً وستؤثر في طبيعة نفوذ الحزب فيه وحدوده في المرحلة المقبلة تبعاً للملفات التي ستوضع على طاولة التفاوض الغربي – الإيراني.
هذا يزيد الأسئلة حول اغتيال لقمان سليم. إذ أنّنا في لحظة محلية – إقليمية – دولية حبلى بتبادل الرسائل. وليس قليل الدلالة قول السفيرة الأميركية دورثي شيا في بيانها الخميس الماضي: “في بلد يحتاج بشدة إلى التعافي من الأزمات المتعددة التي يواجهها، ترسل الاغتيالات السياسية إشارة جدّ خاطئة إلى العالم حول ما يمثله لبنان”. كما ليس عابراً قولها: “إنّنا ننضم إلى أصدقاء لبنان الآخرين”، وهذا دليل التنسيق الدولي بشأن الملف لبنان.
في الحيّز اللبناني فإنّ هذه المتغيرات تعني أن حزب الله يستعدّ لمرحلة جديدة في لبنان يتوقّع أن يكون نفوذه فيها أقوى
كذلك لا يُغفل أنّ بياني إدانة جريمة الاغتيال لكلّ من وزارتي الخارجية الفرنسية والأميركية حملا معطيين سياسيين مهمين، الفرنسي لجهة تأكيده أنّ “باريس تطالب بإثبات الحقائق بوضوح وبأن يسهم كل من يستطيع المساهمة في إثبات الحقيقة بكامل طاقته”، في إشارة ضمنية إلى حزب الله، والأميركي لناحية قول وزير الخارجية أنطوني بلينكن في بيانه مساء الخميس: “ننضم إلى المجتمع الدولي بالدعوة لجلب قتلته إلى العدالة بسرعة”، وهذه إشارة إضافية إلى تزخيم التنسيق الدولي حول لبنان، وهو ما عكسه أيضاً البيان المشترك الفرنسي الأميركي الخميس بشأن إنفجار الرابع من آب.
في المحصلة لبنان الآن على مفترق طرق وسط كلّ هذه التغيرات التي يشكّل حزب الله أحد عناوينها. وقد أتى اغتيال لقمان في حمأة هذه المتغيرات وربّما كارتداد لها، ولذلك فإنّ وضع الجريمة في سياقها السياسي ليس استغلالاً سياسياً لها كما ورد في بيان حزب الله مساء الخميس، بل هو سلوك سياسي ووطني يحتّمه الواقع السياسي الحالي وتحوّلاته الرئيسية، ويمليه أيضاً الدفع باتجاه كشف حقيقة جريمة اغتيال لقمان الذي وحده يسقط الاتهام السياسي.
إقرأ أيضاً: نريد حماية دولية…
لقد وقعت جريمة اغتيال لقمان في لحظة سياسية خاصة جدّاً. وبالرغم من كاتم الصوت فقد سمعت الرصاصات التي اخترقت جسده في دوائر القرار الدولية وخصوصاً في قصر الإليزيه الذي رأى لبنانيون إنّ لقمان سقط على طريق مبادرته في لبنان. وهذا يحيل إلى موجة الاغتيالات التي شهدها لبنان منذ 2005، وقد توقفت في أعقاب “اتفاق الدوحة” الذي انتج وقائع سياسية مختلفة في لبنان ما تزال مفاعليها الدستورية المعطّلة مستمرة إلى الآن. فماذا ستكون تبعات اغتيال لقمان على المفاوضات الحاصلة لحلّ الأزمة السياسية الحالية؟
لكن قبل الأسئلة السياسية هناك أسئلة وطنية كبرى زادها اغتيال لقمان إلحاحاً وضرورة، وهي الأسئلة المتعلقّة بالإمكانات المتبقية للسياسة وللتعددية كشرطين أساسيين لوحدة المجتمع والدولة اللبنانيين في ظلّ إمعان جمهور من اللبنانيين في سحق قيم السياسة والتعدّدية والحرية من خلال شيطنة خصومه السياسيين ومحاولة ترهيبهم وتخوينهم والاعتبار ضمناً وجهاراً أنّ موتهم ولو اغتيالاً، هو عقاب مستحقّ لهم.
إنّه الفرز الأخطر بين اللبنانيين عبر تاريخهم، والطامة الكبرى أنّ المسؤول الأوّل عنه يطالب بوحدة لبنان.