صار لتفاهم مار مخايل من العمر خمسة عشر عاماً، فيما يبدو أنّ إرادة “الصمود” لدى مؤسّسيه، لا تزال تقاوم مصاعب الدرب والضغوطات والاشكاليات التي واجهته وتواجهه، والأخطاء والخطايا التي ارتكبت على الطريق… وما أكثرها.
وها هو بيان “التيار الوطني الحرّ” في ذكرى التفاهم أمس، يثبت أنّ هذا التحالف يواجه مأزقاً صعباً بعد تأكيد المجلس السياسي في التيار بأنّه “لم ينجح في مشروع بناء الدولة وسيادة القانون” مطالباً بـ”تطوير هذا التفاهم بإتجاه فتح آفاق وآمال جديدة أمام اللبنانيين”، معتبراً أنّ هذا “شرط بقاء جدواه”.
لكن حتى الآن لا نيّة من جانب الحليفين، لاعتبارات مختلفة، في نسف التفاهم. ولو أنّهما يؤكدان على مشروع تطوير الورقة التي بقيت جامدة طوال مرحلة العلاقة الثنائية. لكن لا يجوز في المقابل، التقليل من حجم الخلافات التي وقعت بينهما طوال هذه السنوات، ومن ثقل التداعيات التي تركتها ندوب الأخطاء على تلك العلاقة، وما يمكن للتطوّرات والظروف التي رافقت هذه المسيرة، أن تحفر في مشوارهما المستقبليّ.
ولعل هذا ما يفسّر البلادة من جانب الفريقين في المضيّ في خطوة التطوير ولو أنّهما سميّا لجنة مشتركة للقيام بهذه المهمّة التي تبدو حتى الآن صعبة التحقيق، أقلّه في القريب العاجل.
لا شكّ بأنّ حرب تموز كانت الاختبار الأهم والأكثر تأثيراً في مسار العلاقة، التي انتهت إلى وعد الأمين العام لـ”حزب الله” السيد حسن نصر الله التاريخي لميشال عون بأن يصير رئيساً للجمهورية
وقبل الانخراط في مشروع تقييم هذا التفاهم، لا بدّ من عرض أبرز المحطات التي رافقته والتي كان لها الأثر الكبير في تحديد الرسم البياني للعلاقة بطلعاتها ونزلاتها، بدءاً من ظروف تكوينها على وقع الحصار الذي تعرّض له الجنرال ميشال عون الذي كان عائداً لتوه من منفاه الباريسي، بفعل التحالف الرباعي، والذي كان “حزب الله” شريكاً فيه وصار بنتيجته أبرز المتضرّرين منه، ما جعله على خط التقاء مع ميشال عون الذي جارى البقية في خطابهم الداعي إلى حوار داخلي لمعالجة سلاح “الحزب”… فقرّر “التيار الوطني الحرّ” فتح الأبواب الموصدة مع الضاحية الجنوبية لبناء جسر ثقة لتوقيع وثيقة مار مخايل الأولى من نوعها.
لا شكّ بأنّ حرب تموز كانت الاختبار الأهم والأكثر تأثيراً في مسار العلاقة، التي انتهت إلى وعد الأمين العام لـ”حزب الله” السيد حسن نصر الله التاريخي لميشال عون بأن يصير رئيساً للجمهورية، مقابل الغطاء المسيحي الذي أمّنه “التيار”، بعدما نقل المسيحيين من ضفّة الخصومة الشديدة للحزب إلى ضفّة الشراكة الفعلية، وهي خطوة نادرة قد يعجز عن القيام بها كبار القادة. لكنّ ميشال عون فعلها.
أولى المحطات المفصلية وقعت عشية اتفاق الدوحة وصولاً إلى الحرب السورية حين عبرت العلاقة معمودية تحوّلات إقليمية كان يفترض أن يعملا على مواجهتها على نحو مختلف لإعادة النظر بسياستهما المشتركة تجاه التطورات، بعد سقوط شبكة الأمان التي كانت تقدمها سوريا عبر “السين السين”، أي مع السعودية. الأمر الذي لم يحصل… وصولاً إلى استحقاق العام 2016 الذي انطلق مثقلاً بأزمة مالية – نقدية كانت فاقعة كالشمس تنذر بخراب سيأتي عاجلاً أم آجلاً إذا لم تتم معالجتها سريعاً.
طوال هذه الفترة كان “الحزب” يتعامل مع “التيار” على قاعدة ما يريده جبران باسيل من دون أي نقاش فيه. سياسة “دلع” وتحصيل مكاسب وصرف نفوذ وتلميع صورة ودعاية، من دون أي رؤية استراتيجية تحمي مشروع بناء الدولة، أو السلطة التي بلغاها.
لا شكّ بأنّ حرب تموز كانت الاختبار الأهم والأكثر تأثيراً في مسار العلاقة، التي انتهت إلى وعد الأمين العام لـ”حزب الله” السيد حسن نصر الله التاريخي لميشال عون بأن يصير رئيساً للجمهورية
وقعت الواقعة يوم 17 تشرين الأول 2019، وهو مشهد كان يفترض أنّه مُتوقّع وسيحصل في أي لحظة. ومع ذلك تمّ التعامل معه على أنّه مؤامرة أو فورة مزاج أو صور مركبة.
حتّى حكومة حسان دياب، كانت وليدة ضغط الفريق العوني “نكاية” بسعد الحريري تحت عنوان استشارات الأمر الواقع حين تمّ تخيير الحلفاء بين نواف سلام، وأي شخصية أخرى. مع أنّ حزب الله” كان مقتنعاً أنّ أي حكومة لا تحظى بدعم خارجي ستكون بمثابة صبّ الزيت على النار لناحية تحميل هذا الفريق كل مسؤولية الخراب. الأنكى أنّ باسيل كان أول من حمل عصاه بوجه الحكومة التي “تشلّعت” عند هبوب أول عاصفة.
أبرز خطايا هذا التحالف كان النوم على حرير ما تحقق… من مكاسب آنية وموضعية: تعيينات، تلزيمات، مواقع سلطوية. كل شيء إلا المشروع الاستراتيجي. كان الهدف من التحالف من وجهة نظر باسيل، هو كيفية تأمين وراثة سلسة لزعامة ميشال عون، ونقل عدّة السلطة إلى جيبه. فيما “حزب الله” تحت عنوان الحفاظ على الغطاء المسيحي، ترك حليفه يتصرف على هواه، على حساب بقية الحلفاء، من دون حتى القيام بأي جردة نقدية.
بقيت العلاقة محجورة في زمان ولادتها. لا تطور ولا مراجعة أو مواكبة للأحداث. ولأسباب داخلية حصر باسيل كل قنوات التواصل مع الضاحية بشخصه فعزل النواب وبقية القيادات العونية عن هذا الملف، ما حال دون انفلاش العلاقة على قواعد الفريقين.
حتّى حكومة حسان دياب، كانت وليدة ضغط الفريق العوني “نكاية” بسعد الحريري تحت عنوان استشارات الأمر الواقع حين تمّ تخيير الحلفاء بين نواف سلام، وأي شخصية أخرى
أكثر من ذلك، مارس رئيس “التيار الوطني الحر” سياسة الابتزاز والهروب إلى الأمام، متكلاً على أساس صرف النفوذ والقوة وتحميل الآخرين مسؤولية الفشل على قاعدة “ما خلّونا نشتغل”، إلى أن بلغ به الأمر الهجوم على كلّ شركائه بمن فيهم “حزب الله”، بعدما صار سيف العقوبات مسلطاً على رقبته.
مسؤولية الفريقين تكمن في أنّهما لم يأخذا بالاعتبار المتغيّرات الحاصلة من حولهما. فالحزب، بحجّة عدم خدش إحساس حليفه المسيحي، ترك للأخير حريّة التصرّف في كلّ شيء، فراح باسيل يعمل على وراثة العهد بدلاً من إنجاحه، إلى أن وقع الانفجار الكبير وبعده العقوبات.
هكذا تحوّل التفاهم الذي أريد له أن يكون عاملاً مساعداً في تثبيت استقرار الداخلي، إلى تحالف يبحث عن مشروع وهوية. الفريقان مأزومان في علاقتهما وفي رؤية كل منهما. العهد يترنّح و”التيار” يتراجع تراجعاً دراماتيكياً، “الحزب” يتخبّط مع شركائه، ولو أنّه منتصر إقليمياً، وصارت علاقته مع الشارع مع المسيحي على محكّ “التحريض” الذي يمارسه حليفه من جهة، والانهيار المالي والاقتصادي من جهة أخرى.
إقرأ أيضاً: هل يَصمُد تحالف عون – نصرالله حتى نهاية العهد؟
راهناً، ومهما حاول أصحاب العلاقة تجميل الواقع، فلن يتمكنوا من إخفاء الأضرار التي أصابت العلاقة بعد 15 عاماً على قيامها، ولن ينجحا في إقناع جمهورهما بأنّها غير مأزومة ومعطّلة. ومع ذلك لن تخرج أي من القيادتين، لتنعيها أو تضع لها حدوداً، أقله من جانب “حزب الله”، لاعتبارات تتصل به.
فالحزب يتعاطى بدقّة متناهية مع المؤسسات الدستورية المرتبطة بهيكلية الدولة، فكيف إذا كان ميشال عون على رأس هذه الدولة، وهو يحرص على عدم جرّه إلى أيّ إشكال داخلي ربطاً بمسألة سلاحه. كما أنّ التخبط التي تعاني منه شبكة علاقاته مع بقية القوى اللبنانية تدفعه إلى التمسك بحليفه المسيحي على الرغم من كل علات العلاقة وشروطها ومتطلباتها، إلى أن تقضي الظروف الدولية أمراً كان مفعول!
وعلى وقع الأزمة المالية – الاقتصادية – الاجتماعية الآخذة في التفاقم أكثر، العلاقة باتت مشروع أزمة عميقة قد تطيح بكلّ مكتسباتها، إذا لم تشهد التطوّرات الداخلية تحوّلاً جذرياً، يفتح الباب على الخارج.