إعداد جون حنا*
هيمن على ولاية الرئيس الأميركي السابق دونالد ترامب تحدّيان بارزان: محاربة الدولة الإسلامية في العراق وسوريا (داعش) وتقييد إيران. وفي حين اتخذت الحرب ضد داعش أسبقية واضحة من 2017 إلى 2018، تحوّلت الأولوية الأمريكية لاحقًا بشكل حاسم نحو إحباط التهديد الإيراني.
بعدما فقدت داعش آخر معاقلها في العراق أواخر عام 2017، احتفظت الإدارة بحوالي 5000 جندي في العراق، وزودت القوات الأمريكية نظراءها العراقيين بالتدريب، والقوة الجوية، والاستخبارات، واللوجستيات، لمنع عودة التنظيم.
قرار ترامب الانسحاب من الاتفاق النووي الإيراني لعام 2015 وإعادة فرض العقوبات وضع الشرق الأوسط في مسار تصادم جديد، بما ذلك في العراق. بعدما حظرت الولايات المتحدة جميع صادرات النفط الإيرانية، بدأت طهران حملة واسعة من الهجمات العنيفة ضد المصالح الأمريكية. تجلى الهجوم في تصعيد الهجمات الصاروخية التي تستهدف أفراداً أمريكيين بتوقيع ميليشيات موالية لإيران وتابعة لقوات الحشد الشعبي.
تصاعدت الهجمات بشكل كبير في أعقاب حركة احتجاجية حاشدة مناهضة للحكومة اندلعت في تشرين الأول 2019 في بغداد وجنوب العراق. لم تركز التظاهرات على فساد الحكومة وفشلها في تقديم الخدمات والوظائف الأساسية فحسب، بل ركزت أيضًا على إخضاع سيادة العراق لإيران. وتواطأت حكومة عادل عبد المهدي مع إيران والميليشيات التابعة لها، لفرض قمع وحشي للتظاهرات، ثم أجبر عبد المهدي على الاستقالة.
تبع ذلك سلسلة أحداث دفعت العلاقات الأميركية – العراقية إلى مستوى متدنٍ جديد.
– أولاً، هاجمت قوات الحشد الشعبي بعنف السفارة الأمريكية.
– ثانيًا، قتلت غارة أمريكية قاسم سليماني، أهم جنرال إيراني، وأبو مهدي المهندس، القائد الفعلي لقوات الحشد الشعبي.
– ثالثًا، أصدرت العناصر الموالية لإيران في البرلمان العراقي قرارًا غير ملزم يطالب بطرد القوات الأمريكية.
– ورابعًا، شنّت إيران هجومًا صاروخيًا باليستيًا على قاعدتين تستضيفان القوات الأمريكية وحصدت 100 إصابة.
ظلت التوترات تتصاعد طوال العام 2020، وتجسّدت بالضربة الأميركية الثانية الانتقامية ضدّ كتائب حزب الله، بعد قتل سليماني والمهندس، والعقوبات الأمريكية، وأزمة كورونا… وكلّها عوامل أضعفت بشكل واضح يد إيران في العراق.
في أيّار الفائت، أذعنت طهران لتعيين رئيس وزراء جديد، مصطفى الكاظمي، رئيس المخابرات العراقية الذي تربطه علاقات طويلة الأمد مع واشنطن.
قرار ترامب الانسحاب من الاتفاق النووي الإيراني لعام 2015 وإعادة فرض العقوبات وضع الشرق الأوسط في مسار تصادم جديد، بما ذلك في العراق. بعدما حظرت الولايات المتحدة جميع صادرات النفط الإيرانية، بدأت طهران حملة واسعة من الهجمات العنيفة ضد المصالح الأمريكية
بدأت الولايات المتحدة حوارًا استراتيجيًا مع حكومة الكاظمي على أمل تنشيط الشراكة الثنائية، واستضافت الكاظمي في البيت الأبيض. ثم أعلنت الولايات المتحدة أنّها ستخفّض عديد القوات في العراق من 5200 إلى 3000. الأمر الأكثر إثارة للدهشة، في خطوة فاجأت الكاظمي، أنّ الإدارة هدّدت بإغلاق السفارة الأميركية في بغداد وشنّ ضربات جويّة مكثفة ضد وكلاء إيران إذا لم ينهِ الكاظمي هجمات الميليشيات. أثار التحذير موجة من النشاط السياسي العراقي، دفع بالميليشيات للإعلان عن وقف مؤقت لإطلاق النار. بعد الانتخابات الرئاسية الأميركية، أعلنت الإدارة أنّها ستسحب 500 جندي إضافي، ما يترك 2500 جندي عشية تنصيب بايدن.
سياسة ترامب
جسّدت هزيمة خلافة داعش أهم إنجازات ولاية ترامب. قراره اللاحق بالإبقاء على القوات في العراق لمنع عودة ظهور داعش، وتقوية المؤسسات الأمنية العراقية ضد النفوذ الإيراني، تناقض بشكل صارخ مع سعيه إلى سحب القوات الأميركية من سوريا. كما تناقض بشكل صارخ مع قرارات سلفه، باراك أوباما، الذي أدّى انسحابه المتسرّع من العراق إلى صعود داعش ومكّن إيران من زيادة نفوذها.
أدّى الظهور الكامل لسياسة الضغط الأقصى التي انتهجها ترامب ضدّ إيران إلى تعقيدات أمام السياسة الأميركية في العراق. فبعد انسحاب ترامب من الاتفاق النووي، أجبرت الهجمات الصاروخية التي شنتها الميليشيات الموالية لإيران الولايات المتحدة على سحب دبلوماسييها من البصرة، عاصمة منطقة النفط المحاذية لإيران.
بعد القرار الأميركي بخفض صادرات النفط الإيرانية إلى الصفر، أدى تصاعد الهجمات الصاروخية إلى إبراز عجز الحكومة العراقية. ووصلت العلاقة الأميركية – العراقية إلى أدنى مستوياتها، حين ضغط عبد المهدي لانسحاب الولايات المتحدة وهدّد ترامب بفرض عقوبات ساحقة إذا أصرّ العراق على طرد عدائي للقوات الأمريكية.
جسّدت هزيمة خلافة داعش أهم إنجازات ولاية ترامب. قراره اللاحق بالإبقاء على القوات في العراق لمنع عودة ظهور داعش، وتقوية المؤسسات الأمنية العراقية ضد النفوذ الإيراني، تناقض بشكل صارخ مع سعيه إلى سحب القوات الأميركية من سوريا
وأدّى الهجوم الصاروخي الباليستي الإيراني على القوات الأميركية في كانون الثاني إلى تقييد قدرة أميركا على تنفيذ مهماتها ضدّ داعش. من شبه المؤكد أن هذا الهجوم عجل القرار الأمريكي في 2020 بالانسحاب من ثماني قواعد على الأقلّ وتعزيز الوجود الأميركي في موقعين أو ثلاثة.
على الرغم من الخطورة الشديدة، إلا أن مقتل سليماني والمهندس حرم إيران من أهم عناصرها في العراق ما أدى بلا شك إلى إضعاف موقف إيران سياسياً، وخلق مساحة لظهور غير متوقع للكاظمي كرئيس للوزراء، وعرّض إمكانية تجديد الشراكة بين أميركا والعراق.
سعت إدارة ترامب بحكمة لاختبار هذا الاقتراح من خلال بدء الحوار الاستراتيجي، ورحّبت بالكاظمي في البيت الأبيض وسط حملة انتخابية رئاسية ووباء عالمي.
كان تهديد الإدارة المفاجئ بإغلاق السفارة مناورة محفوفة بالمخاطر. إذا تم تنفيذها، ستتضرّ المصالح الأميركية بشدّة بسبب زعزعة استقرار العراق. من جهة أخرى، دفع هذا التهديد الحكومة العراقية إلى بذل جهد سياسي غير مسبوق في الداخل ومع إيران، ما جعل الميليشيات تعلن وقف إطلاق النار، فخفّفت من هجماتها على المصالح الأمريكية.
على الرغم من الخطورة الشديدة، إلا أن مقتل سليماني والمهندس حرم إيران من أهم عناصرها في العراق ما أدى بلا شك إلى إضعاف موقف إيران سياسياً، وخلق مساحة لظهور غير متوقع للكاظمي كرئيس للوزراء، وعرّض إمكانية تجديد الشراكة بين أميركا والعراق
أربع توصيات لإدارة بايدن حول العراق:
1 – إبرام تفاهم ثنائي جديد للحفاظ على وجود عسكري أميركي صغير في العراق: ينبغي لإدارة بايدن أن تستفيد من مصلحة الكاظمي في إحياء العلاقة الاستراتيجية، من خلال التوصل لفهم أمني جديد يعيد صياغة دور الولايات المتحدة في دعم أمن واستقلال العراق، وإرساء جهد تعاوني لتقييد النفوذ الخبيث لإيران ووكلائها. الأهم من ذلك، أنّ الوجود الأمريكي في العراق يشكل أيضًا عامل تمكين حاسم للجهود الأمريكية المستمرة لمواجهة داعش وإيران في شرق سوريا.
2 – إعطاء الأولوية للمبادرات التي تعّزز اقتصاد العراق وتقوّض النفوذ الإيراني: العديد منها الآن على جدول الأعمال، نذكر منها صفقات للشركات الأميركية لتوسيع قطاعي الكهرباء والغاز الطبيعي في العراق، وبالتالي إنهاء اعتمادها الشديد على إيران. وعلى الولايات المتحدة أن تشجّع الخليج على الاستثمار في البنية التحتية للطاقة والغاز مع التحرك بسرعة لربط العراق بشبكات الكهرباء الخليجية. في المجال المالي، يجب دعم صفقة مع صندوق النقد الدولي لتخفيف العجز الهائل في الميزانية العراقية، شرط أن تنفّذ الحكومة إصلاحات هيكلية في اقتصادها القائم على النقد، وإغلاق سبل الفساد التي تستفيد منها إيران ووكلاؤها.
3 – تطبيق استراتيجية سرية ومركّزة لمساعدة الكاظمي على مقاومة الضغط الإيراني: وضمان انتخابات حرّة ونزيهة، وتعزيز حركة الاحتجاج السلمية في العراق، وتشجيع تحالف من الفصائل الأكثر اعتدالاً في البرلمان العراقي لدعم إصلاحات الكاظمي الاقتصادية، ودعمه لاستمرار الوجود العسكري الأميركي، ودعوته لإجراء انتخابات مبكّرة بموجب قانون جديد. ويتعيّن على الولايات دعم أقصى قدر من مراقبة الأمم المتحدة للانتخابات لضمان شفافية وشرعية العملية.
4 – إبقاء الضغط الأميركي على وكلاء إيران من خلال معاقبة الجهات العراقية الخبيثة: لا تشمل فقط شخصيات الميليشيات الموالية لإيران، بل أيضًا القادة السياسيين البارزين والمتورطين في فساد واسع النطاق وانتهاكات حقوق الإنسان وخرق العقوبات والإرهاب وتقويض استقرار العراق. كما يجب تحديد وضبط الأصول في مناطق الاختصاص الأجنبي وإعادتها إلى الشعب العراقي، وعلى الولايات أن تؤيّد بقوّة دعم جهود الحكومة العراقية لمواجهة التهديدات الخطيرة الموجهة ضدّ الأفراد الأمريكيين.
إقرأ أيضاً: توصيات لإدارة بايدن: سلوك نهج صارم ضد “الجهاد السنّي”
*مع انطلاقة عدّاد الإدارة الأميركية الجديدة، صدر أخيرًا تقرير أميركي بعنوان “من ترامب إلى بايدن- الطريق نحو الأمن القومي الأميركي”، تعاون في إعداده مركز القوة العسكرية والسياسية (CMPP)، ومركز القوة الاقتصادية والمالي (CEEP)، ومركز الابتكار السيبراني والتكنولوجيا (CCTI) وتولت نشره “مؤسسة الدفاع عن الديمقراطيات” في أميركا، بمساهمة 35 باحثًا سياسيًا حول العالم.
يتضمّن التقرير توصيات مستندة إلى معالجة للمسائل السياسية المحلية في 15 دولة، من بينها دولٌ تتقاطع سياساتها مع سياسة الرئاسة الأميركية، أو لعبت فيها أميركا أدوارًا مفصلية، مثل لبنان، وسوريا والسعودية وإسرائيل وتركيا وغيرها. كما ينشر التقرير تقييمًا لممارسات أميركا المرتبطة بالحدّ من انتشار السلاح، والأمن السيبراني، والدفاع، والطاقة، وتهديد حزب الله عالمياً، وحقوق الإنسان، والقانون الدولي، والمنظمات الدولية واقتصاد الأمن القومي، والجهاد السني.
اختار “أساس” أقسامًا من هذا التقرير وينشرها على حلقات. في الحلقة السادسة ننشر ملخّصًا عن قسم “العراق” وتوصياته، بقلم جون حنا، الباحث السياسي في مؤسسة الدفاع عن الديمقراطيات.