سمير الصباغ: العروبي حتّى الرمق الأخير

مدة القراءة 5 د

رحل بهدوء، هو الذي كان يسعى إلى أن يكون في قلب الحدث دائماً ومن صنّاعه، أن يكون في المتن لا مجرّد ظلّ لسواه. هو الدكتور سمير محي الدين بدوي الصباغ، الأكاديمي والسياسي. نائب قائد “حركة الناصريين المستقلين- المرابطون”، وعضو اللجنة التنفيذية للحركة الوطنية اللبنانية. ثم مؤسس “حركة الناصريين الوحدويين”. وأخيراً، رئيس “رابطة العروبة والتقدّم”.

لكنّ سعيه هذا، لم تتوافر فيه الظروف، لا المكان ولا الزمان، في لبنان المنقسم عمودياً وأفقياً، وفق اعتبارات حزبية وطائفية وشخصية متداخلة ومعقّدة. وهو ليس وحده من رفاق جيله، جيل الأزمة الوطنية الكبرى ما بين عامي 1975 و1990، سواء كانوا في معسكر الحلفاء أو الخصوم. فالمشكلة هي نفسها تقريباً، والطموح السياسي المشروع هو ذاته. صراع المثقف والزعيم، نائب الرئيس والرئيس، المستشار والقائد. يمكن بسهولة إيراد أسماء في أحزاب فاعلة، لم تلقَ نصيباً في تسنّم الصف الأول، أو أن يكون لها قرار حقيقي في السياسة والحرب، فاعتكفوا وانزووا، مثل العقيد والمحامي والمهندس عاكف حيدر، رئيس المكتب السياسي لحركة “أمل”، ونائب قائد الحركة. فلم ينقصه الحضور ولا الشخصية ولا الفصاحة، ولا الثقافة، لكنه لم يتغلّب على كاريزما المحامي نبيه بري، الذي صعد هو الآخر من الصفوف الخلفية ليكون على رأس الهرم، مستفيداً من كلّ المعطيات الذاتية والموضوعية في آن. وآخرون نجحوا أكثر في الصف الثاني، فلمعوا في السياسة، ونجوا من أوضارها (أوساخها) إلى حدّ ما. فالمحامي كريم بقرادوني لم يكتفِ بموقع نائب قائد قوات “القوات اللبنانية”، صانعاً للسياسات ومنظّراً للتحوّلات وانقلابات الرفاق، ومستشاراً للرؤساء، ووزيراً، وكاتباً سياسياً لكلّ المراحل، لكنّه حين وصل إلى رئاسة حزب مسيحي ماروني تاريخي، هو حزب الكتائب اللبنانية، خبا نجمه وانحسر. ومنهم كالدكتور سمير الصباغ، توافرت له فرص، وضاعت منه فرص أخرى، برز في المرحلة الأولى من عمله في قيادة “المرابطون” وفي “الحركة الوطنية”، كشخصية بيروتية سياسية واعدة، تحتاج إليها بشدة “الحركة الوطنية” في تلك الحقبة، ومعظم قادتها من خارج العاصمة، لكنّه اصطدم بجدار الزعامة الشعبوية لقليلات وفرديته، فبقي في الظلال، ولم يترك المركب في التوقيت المناسب إثر انحسار الحركة وغياب قائدها منتصف الثمانينيات من القرن الماضي.

توقيت خروج سمير الصباغ من حركة “المرابطون”، وتأسيسه حركة ناصرية جديدة، تحت عنوان توحيد كلّ الناصريين بعد الضربة القوية التي نالت من “الحركة الوطنية” بخروج “منظمة التحرير الفلسطينية” من بيروت عام 1982، وما نال “المرابطون” على وجه أخصّ عام 1985، من انقلاب رفاق السلاح على التنظيم البيروتي الأكثر شعبية في تلك الحقبة، كان خطأ سياسياً تكتيكياً، وما هو أكثر من ذلك

مع مرور الوقت، اكتشف الدكتور سمير الصباغ، كما اكتشف غيره، من رجال الصف الثاني، أنّ دوره محدود. وليس مستغرباً أن ينفرد القادة والزعماء في لبنان خصوصاً، بالقرار وتسيير الأمور. لم يقف عند هذا الحدّ، بل تواصل مع محسن إبراهيم وكمال جنبلاط وجورج حاوي، وهم قادة “الحركة الوطنية” ومحرّكو الساحة السياسية المتحالفة مع منظمة التحرير الفلسطينية. وفي المقابل، لم يعترض قليلات على هذا التقارب، بل استعمل الوضع الناشىء بذكاء، فعمد إلى إيصال الرسائل عند الضرورة إلى قادة الحركة، بوساطة الدكتور سمير، ومن دون أن يتخطّى هذا القدر، إذ كان يرفض قليلات ترشيح “الحركة الوطنية” لنائبه ليكون وزيراً في أيّ حكومة.

إلا أنّ توقيت خروج سمير الصباغ من حركة “المرابطون”، وتأسيسه حركة ناصرية جديدة، تحت عنوان توحيد كلّ الناصريين بعد الضربة القوية التي نالت من “الحركة الوطنية” بخروج “منظمة التحرير الفلسطينية” من بيروت عام 1982، وما نال “المرابطون” على وجه أخصّ عام 1985، من انقلاب رفاق السلاح على التنظيم البيروتي الأكثر شعبية في تلك الحقبة، كان خطأ سياسياً تكتيكياً، وما هو أكثر من ذلك.

فقد صُفّيت حركة “المرابطون” وهي في الأوج، بعد تصدّيها للاجتياح الإسرائيلي لبيروت عام 1982 في معركة المتحف، ومشاركتها المؤثرة في حركة 6 شباط عام 1984 ضدّ عهد الرئيس أمين الجميل، خصوصاً أنّ التصفية العسكرية والسياسية لقوى أهل السُنّة كان هدفها قسمة المكاسب على ثلاثة أفرقاء بدلاً من أربعة، بالتزامن مع حصار مدينة طرابلس وضرب “حركة التوحيد الإسلامي” في العام نفسه. فالاتفاق الثلاثي المزمع عقده في دمشق في أواخر عام 1985 لإنهاء الحرب الأهلية، كان يضمّ إيلي حبيقة عن “القوات اللبنانية” وحركة “أمل” و”الحزب التقدمي الاشتراكي” فقط. لذلك، فإنّ قراءة المشهد السياسي وآثاره في البيئة السنية لم تكن متوافقة مع الرأي العام في البيئة الحاضنة ببيروت، فاندثرت التجربة الجديدة سريعاً.

إقرأ أيضاً: ميشال المرّ: رحيل ظاهرة وعصر و”دولة”

لم يتوقف سمير الصباغ عن ممارسة السياسة عقب اتفاق الطائف وانتهاء الحرب، وافتتاح مرحلة جديدة عنوانها إعادة الإعمار مع الرئيس الشهيد رفيق الحريري، لكنّه انزوى في الأيديولوجيا العروبية الناصرية الهوى، وتابع نشاطه في “دار الندوة”، و”المنتدى القومي العربي”، وفي “الحملة الأهلية لنصرة فلسطين”، ملتزماً تحليل الواقع المتغيّر بأدوات التحليل نفسها، ووفق الرؤية الثابتة إيّاها، حتّى الرمق الأخير.

مواضيع ذات صلة

تركيا في الامتحان السّوريّ… كقوّة اعتدال؟

كان عام 2024 عام تغيّر خريطة الشرق الأوسط على أرض الواقع بعيداً عن الأوهام والرغبات التي روّج لها ما يسمّى “محور الممانعة” الذي قادته “الجمهوريّة…

ردّاً على خامنئي: سوريا تطالب إيران بـ300 مليار دولار

 أفضل ما كان بمقدور إيران وقياداتها أن تقوم به في هذه المرحلة هو ترجيح الصمت والاكتفاء بمراقبة ما يجري في سوريا والمنطقة، ومراجعة سياساتها، والبحث…

إسرائيل بين نارين: إضعاف إيران أم السُنّة؟

الاعتقاد الذي كان سائداً في إسرائيل أنّ “الإيرانيين لا يزالون قوّة مهيمنة في المنطقة”، يبدو أنّه صار من زمن مضى بعد خروجهم من سوريا. قراءة…

تركيا والعرب في سوريا: “مرج دابق” أم “سكّة الحجاز”؟

الأرجح أنّ وزير الخارجية التركي هاكان فيدان كان يتوقّع أن يستقبله أحمد الشرع في دمشق بعناقٍ يتجاوز البروتوكول، فهو يعرفه جيّداً من قبل أن يكشف…