يتوسع أفق المعركة بين بعبدا وبيت الوسط. حزب الله على الحياد، يلعب دور المتفرج والناصح. عون يخوض آخر معاركه، وهي معركة على طريق تأمين المستقبل السياسي لجبران باسيل. الحريري يلعب معركة مصيرية، غير قادر على تقديم أيّ تنازل، لأنه يعرف أنّ تراجعه عن شروطه سيكون بمثابة انتحار سياسي. الطرفان يخوضان معركة “عليّ وعلى أعدائي”، لكنّ الفارق بينهما، هو أنّ عون خسر كل شيء، فيما الحريري لا يزال يراهن على جملة نقاط يربحها من خلال تشكيله للحكومة بمواصفات ترضي المجتمعين العربي والدولي.
لم يكن خطاب 14 شباط على المستوى الاستراتيجي للذكرى، لكنّه بالمعنى الشعبي، شفى غليل منتظري هجوم حريري جدّي وواضح على رئيس الجمهورية ميشال عون وجبران باسيل، كشف خطابه معظم مداولات عملية تشكيل الحكومة. دخل في مواجهته انطلاقًا من الحرص على المناصفة ووقف العدّ، في توجه مباشر من قِبله إلى البيئة المسيحية ككلّ، وهذه نقطة استراتيجية تُحسب له. اكتفى الحريري في وضع الذكرى وخطابها في خانة هذه التفاصيل، أما عندما تحدث عن الوضع العام، فكان موقفه خجولًا نسبيًّا. وبدا واضحاً أنّه لا يريد أيّ تصعيد مع حزب الله، ولا يريد الدخول في مواجهة، في حين تقف المنطقة على حافة انتظار العلاقات الأميركية الإيرانية، ولا يريد الرجل دفع أيّ ثمن لأيّ تغيير أو تصعيد.
يحاول رئيس تيار المستقبل الالتفاف على كل اليوميات اللبنانية التي تسعى إلى تطويقه، من خلال جولاته الخارجية، والتي وصفها بأنها تأتي في سياق استعادة علاقات لبنان الخارجية التي ابتعد اللبنانيون عنها كثيرًا في عهد ميشال عون.
لم يكن خطاب 14 شباط على المستوى الاستراتيجي للذكرى، لكنّه بالمعنى الشعبي، شفى غليل منتظري هجوم حريري جدّي وواضح على رئيس الجمهورية ميشال عون وجبران باسيل
بعد زيارته مصر، ودولة الإمارات، وفرنسا، وتركيا، يزور الحريري دولة قطر ويلتقي أميرها، نتيجة تنسيق مسبّق قد حصل خلال زيارة وزير الخارجية القطرية الى لبنان. عندها لم يكن الحريري موجودًا، فأبلغ الوزير القطري بأنّه ينوي زيارة الدوحة، وهذا ما حصل. أهم ما في الزيارة أنّها تأتي بعد زيارة الوزير القطري إلى طهران ولقائه المسؤولين الإيرانيين ما عدا المرشد الأعلى للثورة. لكنّ تصريح زميله الإيراني ظريف عن رفض دولته المبادرة الفرنسية في لبنان، يعطي فكرة مسبّقة عن ما سيسمعه الحريري في الدوحة.
بعد الزيارة القطرية، يُفترض بالحريري أن يزور دولة الإمارات، كما سيزور العراق للقاء رئيس الوزراء مصطفى الكاظمي.
على وقع هذه الزيارات، فإنّ المعركة ستبقى مفتوحة مع رئيس الجمهورية ميشال عون. يتمسك الحريري بعدم منح الثلث المعطّل لأيّ فريق سياسي. وقد تبلّغ دعمًا واضحًا من حزب الله والرئيس نبيه بري، بينما عمل الحزب على إقناع جبران باسيل بالتنازل عن الثلث، لأنّه مع حزب الله قادر على امتلاك هذا الثلث، لكن لا شك أنّ هناك أزمة ثقة بين الطرفين. لم تعد معركة عون وباسيل تقتصر على خلاف حول تشكيل الحكومة، بل باتت تتمحور حول مرحلة ما بعد انتهاء ولاية رئيس الجمهورية. فما يريد عون أن يفرضه، هو أن يكون جبران باسيل مرشحًا أوحد لرئاسة الجمهورية، عدا عن ذلك، هناك بحث في دوائر القصر الجمهوري عن صِيغ متعددة لبقاء ميشال عون في القصر وعدم مغادرته. وهناك مبرّرات عديدة يجري العمل عليها، منها أنّ التمديد للمجلس النيابي يسري على بقاء الرئيس في موقعه وعدم المغادرة وترك الموقع للفراغ.
بعد الزيارة القطرية، يُفترض بالحريري أن يزور دولة الإمارات، كما سيزور العراق للقاء رئيس الوزراء مصطفى الكاظمي
خوض مثل هذه المعركة يحتاج إلى تسعير مذهبي وطائفي كبير في المرحلة المقبلة، سيتزامن مع توتير سياسي وشعبي واضح. فيما الغريب كان إصرار الحريري على أنّ الحكومة ستتشكل في النهاية، لكنه لم يقل إلى ماذا يستند ليجزم بهذا الشكل.
ما قصد قوله إنّه لن يعتذر، وإنّ الحكومة في نهاية المطاف ستتشكل برئاسته، مراهنًا على ظروف إقليمية تفرض تغيّرًا على الساحة اللبنانية. لكنّ المعركة لم تعد معركة تشكيل حكومة، إنّما معركة تشكيل السلطة وكيفية استمرارها، وهي ستنطوي على مخاطر كبيرة تمسّ بالكيان اللبناني.
إقرأ أيضاً: الحريري لبرّي وجنبلاط والسنيورة: صامدون
تنطلق ثقة الحريري من دعم يتلقاه من الفرنسيين والإماراتيين والمصريين مع دفتر شروط واضح ومحدّد، ويستند إلى تمسّك حزب الله به علنًا على الأقل، بالإضافة إلى حصوله على جرعة دعم روسية. يتحرك على أكثر من إيقاع بهدف الحفاظ على موقفه، يراقب الأدوار القائمة في المنطقة والساعية على خطّ التفاوض بين إيران والولايات المتحدة، وفي هذا الإطار تأتي زيارته الدوحة، وبعدها بغداد. يريد أن يبقى على تماسٍّ مع الخطّ الإيراني، لقناعة لديه بأنّ طهران ستحتفظ بنفوذها مستقبلًا. لكن لا بد لكلّ هذه الجولات كلها أن تقود الحريري في النهاية إلى الرياض، لأنّه من غير الممكن أن يزور الرجل كلّ هذه العواصم ولا تُفتح له أبواب الرياض.
هناك مساعٍ كثيرة عربية ودولية، تسعى لتعبيد طريقه إلى العاصمة السعودية، وسط توقعات بأن لا تحصل هذه الزيارة في المرحلة المقبلة.