أكثر ما ينطبق حديث “واذكروا حسنات موتاكم” على ميشال المرّ، “دولته” الراحل مع رحيل الدولة التي بنى له فيها موقعاً عالياً بين اللاعبين السياسيين الكبار مدى عقود، وعهود استحقّ فيها لقب “صانع الرؤساء”، قبل أن يأتي عهد الجنرال وحروب إلغائه، السياسية قبل العسكرية.
ظاهرة كان. في السياسة تميّز بحاسة سادسة لا تخطئ اتجاهات الريح الخارجية والداخلية على السواء، فيسبقها بقدرة خارقة على التكيف مع كل الظروف ليبقى واقفاً وقادراً على أداء الأدوار وتوسيع امبراطورية عمّرها بدأب مُذهل يُسجّله كل يوم للتذكير به يوم الحساب.
سيُذكر ميشال المر بأنّه آخر السياسيين من المدرسة القديمة. حيث الزعيم، كما يقولون بالعامية، هو الذي “يفكّ مشانق وبيقطع روس وبيحطّ فلوس”. استخدم الأعمال لخدمة السياسة والسياسة لخدمة الأعمال، والإثنتين في خدمة الإستحواذ على النفوذ. وكان يعرف أبناء منطقته في شكل وثيق، أكانوا من مؤيديه أو مؤيدي خصومه، الأوّلون “يخدمهم بعيونه” في الوظيفة والخدمات “غِبّ الطلب”، والثانون سيكون عليهم دفع ثمن تمرّدهم عليه. وكان كثيرون في بلدته بتغرين والمتن الشمالي يحبّونه بتطرف. لعلّ “دولته”، اللقب الذي كان يستهويه واخترعه لنائبي رئيس مجلس النواب ورئيس مجلس الوزراء الأرثوذكسيين، هو أكثر زعيم مناطقي في تاريخ لبنان الحديث يظهر في الصور محمولاً على الأكتاف.
ظاهرة مع الصحافيين أيضاً. كان يغدق على زوّاره المواظبين منهم المعلومات التي كانوا يسعون إليها، ولديه منها الكثير، و”المعلوم” أيضاً، فيخرجون مسبّحين بحمده، حتّى تكوّنت لخدمته شبكة تغطّي جرائد ووسائل إعلامية عدّة تمرّر رسائله وسياساته كما يريد.
بغيابه يغيب نموذج نادر من السياسيين اللبنانيين. صاحب سيرة مذهلة بتقلّباتها وحسناتها وسيئاتها. “صانع رؤساء” من زمن كان للبنان ولرئاسته رونق
جمع ميشال المرّ، ولاحقاً شقيقه غبريال، ثروة من تعهدات هندسية في أفريقيا خلال الستينيات والسبعينيات من تعهدات هندسية ومشاريع في ساحل العاج والكونغو وزائير، وفي لبنان أيضاً. وعندما ترشح ميشال، ذو النظارتين السوداوين الكبيرتين، للمرة الأولى للانتخابات عام 1960 كان بعمر 28 سنة وكان للروم الأرثوذكس مقعد واحد في المتن الشمالي احتله الطبيب الكتلوي الهوى ابن بيت مري، ألبر مخيبر. ترشّح ضده وأيضاً ضدّ عمه غبريال المر الذي لم ينسحب من الميدان بعدما خسر أمام مخيبر في انتخابات 1957. ترشّح ميشال المر مجدّداً في 1964 وخسر أمام مخيبر، ليفوز بعدها حليفاً لحزب الكتائب اللبنانية في موجة “الحلف الثلاثي” الذي لم يتفق على لائحة في المتن الشمالي ضدّ “الشهابية” سنة 1968. إلّا أن مخيبر هزمه مرة أخرى في انتخابات مجلس 1972 وستكون الخسارة قاسية بمرور الزمن لأنّ ذلك البرلمان استمرّ بفعل تمديدات الحرب 20 عاماً حتّى 1992. إلّا أنّ ابن بتغرين الطموح ملأ تلك الحقبات متقلباً بين المواقع الوزارية والإستشارية ولعب الأدوار في التحالفات والاتصالات والانقلابات.
مع بداية “العصر السوري” في لبنان حرص ميشال المرّ خلال علاقاته مع الحاكمين في لبنان باسم حاكم دمشق على تخصيص مقعدين في المتن الشمالي للروم الأرثوذكس، فضمن بقاءه في البرلمان خلال انتخابات 1992 – 1996 – 2000- 2005 –2018 من دون أن يواجه منافسة خطرة عليه حتّى وفاته. صحيح أن انتخابات 2018 شكلت له تحدّياً بفعل القانون الجديد الذي جرت على أساسه ورفض قادة الأحزاب المتصارعة التحالف معه إلا أنه خرج منها فائزاً قوياً، وإن وحده، من اللائحة التي شكّلها، وبصحّة غلب عليها الوهن.
غير أنّ أسلوبه في العمل السياسي الشعبي بقي غريباً طوال حياته. لم يكن يردّ طالب خدمة، أكان “طابق مرّ” أو وظيفة أو وساطة من أي نوع. يشهد على ذلك جهاز خدمات متكامل أقامه في مكاتبه في ما سُمّي بـ”العمارة” في عمارة شلهوب – الزلقا. ولكن يحدث أنّ موظفين في وزارة الاتصالات لا يوالونه يمضون عمرهم في الوظيفة ويتقاعدون منها بصفة “موقتين” غير مثبتين، وفي المقابل يستطيع تعيين موظف من أنصاره في موقع مدير عام لوزارة من دون أن يكون حاصلاً على الشهادة الجامعية. كل الخدمات والتسهيلات في مقابل كل الاحترام والولاء. أسلوب قريب من طريقة العمل السياسي في جزيرة صقلية الماضي، ولكن من دون دم. أتاح له نفوذه إيصال عشرات القضاة والضباط الكبار وموظفي الإدارة إلى مواقع قيادية في الدولة، بوزاراتها ومصالحها وأجهزتها على أنواعها. فضلاً عن مئات من رؤساء البلديات والمختارين وأعضاء المجالس البلدية والإختيارية في المتن وخارجه. كلهم بأمر “دولته”.
حاول ميشال المرّ التكيّف مع العماد ثم الرئيس ميشال عون ولم يستطع. وكان سريع البديهة لاذعاً. عندما سُئِلَ مرّة عن سليم جريصاتي، وكان محامياً يكلّفه المر ببعض القضايا، علق بدهشة: “كان عنِّا. أخذوه وطوّلوا له شعره وعملوه وزير!”
تقلّب ميشال المرّ في المناصب الوزارية خلال عهد الرئيس الياس سركيس. لم يتورّط مباشرة في الحرب لكنّه، عندما اندلعت، كان الصندوق المالي للنائب الشاب آنذاك رئيس إقليم المتن الكتائبي أمين الجميّل. كان الشيخ أمين يحيل طلبات رؤساء الأقسام والقطع العسكرية وكل طالب حاجة مع بطاقة تحمل توقيعه، والمهندس المرّ الغني يدفع. إلاً أنّ “العنيد”، كما كان يُسمّى الجميّل، لم يتقبّل انتقال ميشال المر إلى خدمة مشروع شقيقه قائد “القوات اللبنانية” آنذاك بشير الجميّل للوصول إلى رئاسة الجمهورية.
كان زاهي البستاني، المفوّض العام الممتاز في الأمن العام آنذاك، والمتمرّد لفترة على قيادته الرسمية، بمثابة مدير الحملة الرئاسية لبشير الجميّل ومدير مكتبه والأقرب إليه. وكان ميشال المرّ بالتنسيق مع زاهي يتولّى مهمة إقناع النواب الذين يستطيع التواصل معهم بانتخاب بشير.
عندما اغتيل الرئيس المنتخب بعد 21 يوماً ذات 14 أيلول 1982 أدرك ميشال المرّ أنّه سيكون عليه عبور الصحراء في انتظار ظهور واحة يتجه إليها، وقد لاحت له مع انقلاب “رفاق بشير”، إيلي حبيقة وسمير جعجع وكريم بقرادوني، سنة 1985، على الرئيس الجميّل الذي أبعده طوال ولايته عن المناصب والمواقع الرسمية. ساعدهم ميشال المرّ في تشكيل “لقاء مسيحي”، من سياسيين على اتصال به، وفّر للمنتفضين الغطاء للمزايدة على رئيس الجمهورية والعهد المترنّح بفعل ضربات شتّى. ويومياَ كانت جريدة “الجمهوريّة” التي أنشأها الياس المر، نجل النائب المرّ، تُعنوِن على أنّ الجميّل لم يحافظ على المسيحيين وأمنهم وحقوقهم ولم يتبع خطى شقيقه بشير. وكان ميشال المرّ مع ميشال سماحة، ابن بلدة “الجوار” المجاورة لبتغرين، أقرب الناس إلى إيلي حبيقة. أمّنا له اتصالاً بالقيادة السورية وبدأت سرّاً المفاوضات توصُلاً إلى “الإتفاق الثلاثي” برعاية عبد الحليم خدام، نائب الرئيس السوري آنذاك.
يروي كريم بقرادوني أنّ ميشال المر بكى وهو يناشده ويناشد سمير جعجع وقائد الجيش آنذاك ميشال عون فعل أي شيء لإنقاذ نجله الياس الذي حوصر مع حبيقة في مبنى “جهاز الأمن” في الكرنتينا عند إسقاط “الإتفاق الثلاثي” في 15 كانون الأول 1986 بعملية عسكرية مشتركة لـ”القواتيين” أنصار جعجع و”الكتائبيين” أنصار الجميّل. بفضل الياس المرّ خرج إيلي حبيقة حياً في آلية للجيش بناءً على إصرار ميشال عون. سيتبين لاحقاً أنّ الجنرال عون هو الذي وضع الشقّ العسكري من “الاتفاق الثلاثي”.
في السنوات المتبقية من عهد الجميّل وسنتي الجنون في قصر بعبدا (1988- 1990) لم يظهر أثر على الشاشة السياسية لميشال المرّ، لكنّه سيتعرّض لمحاولة اغتيال بسيارة مفخّخة عند جسر إنطلياس خلال عهد الرئيس الهراوي، وكان وزيراً للدفاع ونائباً لرئيس مجلس الوزراء. وسيُتّهم لاحقاً قائد “القوات” جعجع بذلك التفجير ويدفع ببراءته في مواجهة مع ميشال المر أمام المجلس العدلي.
ستكرّ سنوات “عصر ذهبي” لميشال المر في العهدين الممدّدين للرئيسين الياس الهراوي وإميل لحود وتخلو له الساحة والمسرح في غياب أقطاب الموارنة، أمين الجميّل وميشال عون في فرنسا، وسمير جعجع في سجنه المديد. حضن كثيرين من أنصار خصومه، أمّن حياتهم وسبل معيشتهم وخدمات ومرجعية يلجأون إليها، حتّى شاع تعبير “كتائبيي ميشال المر”. لكنّه سيضطر مع وفاة النائب ألبر مخيبر عام 2002 إلى خوض معركة مريرة من خلال كريمته ميرنا مع شقيقه غبريال المر الذي رشّحه “لقاء قرنة شهوان” بمبادرة من الرئيس أمين الجميّل والنائب الراحل نسيب لحود. معركة لربما ذكّرت النائب المرّ بترشحه ضدّ عمه غبريال المرّ قبل 62 عاماً. ومعروفة النتيجة: خسرت ميرنا وفاز غبريال وأسقطوه وأغلقوا محطته التلفزيونية آنذاك وأجلسوا على المقعد، غصباً عن الطبيعة، غسان مخيبر ابن شقيق النائب مخيبر.
لكنّ موقع ميشال المر، الذي كان يرمز إلى قوّة عهد لحود، اهتزّ بقوة. ولن يلبث الرجل الذي أتقن الاتجاه مع الريح أن يقدم إلى حركة “14 آذار” نجله الياس تُرفع صورته بصفته “شهيداً حياً”، مع النائب المستقيل مروان حمادة والوزيرة السابقة مي شدياق. وذلك بعد تعرّض الياس لمحاولة اغتيال بسيارة مفخخة نجا منها بأعجوبة.
إقرأ أيضاً: سمير الصباغ: العروبي حتّى الرمق الأخير
حاول ميشال المرّ التكيّف مع العماد ثم الرئيس ميشال عون ولم يستطع. وكان سريع البديهة لاذعاً. عندما سُئِلَ مرّة عن سليم جريصاتي، وكان محامياً يكلّفه المر ببعض القضايا، علق بدهشة: “كان عِنّا. أخذوه وطوّلوا له شعره وعملوه وزير!”.
برحيله يغيب نموذج نادر من السياسيين اللبنانيين. صاحب سيرة مذهلة بتقلّباتها وحسناتها وسيئاتها. “صانع رؤساء” من زمن كان للبنان ولرئاسته رونق.