كلما اشتدّ خناق الأزمة السياسية والاقتصادية على اللبنانيين، ارتفع منسوب الفوضى. بالمعنى الأمني الصِرف لم يصل لبنان بعد إلى مرحلة الفوضى التي قد تعني “أهلاً بكم رسمياً في جهنم”.
عملياً، مسببّات الفوضى موجودة، وبقوّة، في غياب سلطة تنفيذية مُتماسكة تتولّى إدارة أزمة هي الأخطر منذ التسعينيات ولا تستطيع اجتماعات المجلس الأعلى للدفاع بالتأكيد أن تكون “بديلاً عن ضائع”. يترافق هذا مع انهيار مالي مريع ومخاطر تطال مباشرة الأمن الدوائي والاستشفائي والغذائي للبنانيين، وواقع مؤلم يصفه الخبير المالي وليد أبو سليمان بأنّه “أكبر جريمة منظّمة في تاريخ البشرية ارتكبت بحق شعبٍ بأكمله”.
ومشهد طرابلس الـ “لايف” والساخن ليل أمس في عزّ الإقفال العام، بعد جولات متكرّرة من الكرّ والفرّ بين المُحتجين والقوى الأمنية والجيش على مدى أيام بعيداً من الإعلام، شكّل إنذاراً قاسياً للسلطة المتخلّية بالكامل عن مسؤولياتها الى حدّ التواطوء ضد ناسها!
وأمام هذا الاضمحلال المخيف في مقوّمات الدولة لا يزال الأمن العنصر الثابت الوحيد الذي يُغطي “ظهر الدولة المكشوف”.
في مرحلة ما بعد 17 تشرين تجاوزت الأجهزة الأمنية قطوعين أساسيين: الأول هو التظاهرات الضخمة التي بدأت سلمية لتتّخذ بعدها أشكالاً عنفية مع محاولات لاقتحام مقرّات رسمية و”اجتياح” مجلس النواب وقطع طرقات في المناطق. والثاني معالجة إفرازات “الجريمة المنظّمة” بحق الأبرياء على أبواب المصارف التي مارست، عن قصد، عملية تنكيل مُمنهجة بوجه المودعين كادت أن تؤدي في كثير من الأحيان إلى وقوع ضحايا، ودفعت إلى اتّخاذ قرار بنشر مئات عناصر القوى الأمنية أمام أبواب المصارف لحراستها.
مشهد طرابلس الـ “لايف” والساخن ليل أمس في عزّ الإقفال العام، بعد جولات متكرّرة من الكرّ والفرّ بين المُحتجين والقوى الأمنية والجيش على مدى أيام بعيداً من الإعلام، شكّل إنذاراً قاسياً للسلطة المتخلّية بالكامل عن مسؤولياتها الى حدّ التواطوء ضد ناسها!
وما بينهما “انفجار العصر” في مرفأ بيروت الذي أدّى، في السياسة، إلى تطيير الحكومة لكنه لم “يُشعِل” شارعاً بدا خاضعاً ومُنهَكاً وغارِقاً في تأمين خبزه وقوته و”أوكسيجنه”، مع استمرار إعلان حالة الطوارئ وتمديد تكليف الجيش بحفظ الأمن في المنطقة المنكوبة، والذي ينتهي نهاية آذار القادم. فيما سجّلت مداولات المجلس الأعلى للدفاع في جلسته نهاية العام، تحذيرات “جدّية” من تهديدات أمنية تفرض رفع مستوى الجهوزية وصولاً إلى الحديث عن اغتيالات محتملة. رغم أنّ قيادات في أجهزة أمنية نفت لاحقاً أن تكون مداولات المجلس الأعلى للدفاع تناولت احتمالات الاغتيالات ما عدا شخصية سياسية “مسيحية” تمّ تعزيز إجراءاتها الأمنية.
لكن مع الإقفال العام المرجّح أن يطول أكثر بعد التمديد المتكرّر له وارتفاع عدد من باتوا عاجزين عن تأمين لقمة عيشهم، فقد ارتفع منسوب الاضطرابات الأمنية في المناطق. مع دخولٍ على الخط بات موثّقاً لدى جهات أمنية لأحد أجهزة المخابرات الإقليمية غير العربية.
وما حدث في الأيام الماضية من بيروت إلى طرابلس وصولاً الى صيدا والبقاع والأوتوستراد الساحلي يرجّح، وفق مصادر أمنية، أن يمتدّ الى مناطق أخرى. وقد بدا كحالة أمنية “خاصة” أفرزها سوء الوضع المعيشي والاقتصادي والسياسي، وطبيعي أن يتم استغلالها من جانب جهات سياسية لا تجمعها أجندة واحدة لكنها التقت على تأليب الشارع ضد السلطة المترنّحة في عزّ الاقفال العام.
ففي ظلّ حالة طوارئ صحية تُلزِم اللبنانيين البقاء في منازلهم بسبب تفشّي فيروس كورونا وتجاوز الخطّ الأحمر بأعداد الإصابات وأعداد الوفيات، رُصِدت تظاهرات متكرّرة في ساحة النور بطرابلس اعتراضاً على الإقفال العام وسوء الوضع المعيشي والعجز عن تأليف حكومة… قادت إلى مواجهات مع القوى الأمنية والعسكرية، وبلغت ذروتها ليل أمس مع الإصرار على اقتحام السراي كردّ فعل على توقيف محتجين يوم الاثنين، فيما تمدّد التوتر باتجاه منازل بعض نواب المدينة.
وإضافة إلى ذلك رصدت تحرّكات منظّمة لدراجات نارية في بيروت ليل الاثنين والثلاثاء بين شارع مونو وبين تمثال المغتربين والرينغ والصيفي، واستكملت بقطع الطريق أمس في منطقة كورنيش المزرعة على تقاطع جامع جمال عبد الناصر. وقد عمدت قوى مكافحة الشغب لاحقاً إلى فتح الطريق وتفريق المحتجين. كما شهدت الأيام الماضية قطع طرقات أيضاً في البداوي والمرج وضهر البيدر والجية وصيدا وتعلبايا… مع تهديدات صريحة بجعل التحرّكات مفتوحة.
مع الإقفال العام المرجّح أن يطول أكثر بعد التمديد المتكرّر له وارتفاع عدد من باتوا عاجزين عن تأمين لقمة عيشهم، فقد ارتفع منسوب الاضطرابات الأمنية في المناطق. مع دخولٍ على الخط بات موثّقاً لدى جهات أمنية لأحد أجهزة المخابرات التركية
وتوضح مصادر أمنية أن “جزءًا من هذه المجموعات تحرّك بأوامر من “جماعة المنتدى” بقيادة نبيل الحلبي المقيم في تركيا والناشط على خط العمل مع الإدارة التركية والذي يتلاقى مع محور القوات اللبنانية، فيما يعمل الوزير السابق اشرف ريفي على خطّ مغاير”.
وكان لافتاً بيان الاستنكار من رجل الأعمال بهاء الحريري، بوجه ما قال إنّه “اعتداء على الصحافي ابراهيم فتفت مراسل “صوت بيروت انترناشونال” أثناء تغطيته تظاهرة مساء الاثنين في ساحة النور بطرابلس حيث جرت محاولة اقتحام للسراي”. مع العلم أنّ الإعلام بشكل عام كان غائباً عن تغطية هذه التظاهرة باستثناء الوسيلة الاعلامية المموّلة من بهاء الحريري.
بالموازاة، يمكن الافتراض منطقياً أنّ جمهور “المستقبل” شريك أساسي في هذه التحركات باعتبار أنّها عنصر ضاغط لتشكيل الحكومة وفق شروط الرئيس المكلّف.
وبالتزامن أيضاً تحرّكت بعض جماعات اليسار في صيدا والجنوب من دون رصد تنسيق مع جهات سياسية أخرى، وفق تأكيدات أمنية.
إقرأ أيضاً: الاغتيالات الآتية: من يملك السلاح و”السرايا” في لبنان
وتضيف مصادر أمنية إنّ “معطيات توافرت خلال الأسابيع الماضية عن نية جهات سياسية تحريك الشارع، خصوصاً في طرابلس، الأرض الخصبة للتوترات الأمنية”.
وفيما بات الجوع والعوز والمعاناة من إقفال فًرضَه الفيروس، من دون تقديم البدائل، سِمة مشتركة بين معظم فئات اللبنانيين إلا أن أجندة “الاستغلال” ظهرت لدى أكثر من فريق سياسي من باب الضغط على قوى سياسية هي أصلاً “فارطة” ولا تحتاج لِمن يُربِكها.
وتتخوّف المصادر من “حصول عملية إلهاء للجيش وللقوى الامنية واستنزافها في متابعة خريطة هذه التحرّكات، فيما قد يتكثّف العمل على محور آخر أكثر خطورة هو إنعاش عمل الخلايا الإرهابية في الداخل على ضوء الحراك المتنامي المخطّط لـ”داعش” في سوريا والعراق خلال الأشهر الماضية. ما قد تكون له تداعيات مباشرة على الساحة اللبنانية”.