هل يقترب الحديث عن افتراق روسي إيراني على الساحة السورية في هذه المرحلة من الواقع والحقيقة؟ في وقت ما تزال الأوضاع تمنع انتهاء المساكنة القائمة بين الطرفين لاستمرار حاجتهما لبعضهما البعض الآخر، خصوصاً في ظل التغيير الحاصل في الإدارة الأميركية بعد خروج دونالد ترمب من البيت الأبيض ودخول الديمقراطي جو بايدن وما تحمل مؤشرات السياسات الديمقراطية من إمكانية حصول انفتاح على طهران وعودة التشدد النسبي اتجاه موسكو.
الموقف الذي أعلن عنه وزير الخارجية الروسي سيرغي لافروف عن التزام بلاده بأمن إسرائيل وأن لا تتحول سوريا إلى مصدر يهدّد هذا الأمن، لم يكن جديداً. وكذلك ما تسرّب – إذا صحّ التسريب – عن لقاءات أو مفاوضات سلام تجري برعاية روسية بين النظام السوري والإسرائيليين في قاعدة حميميم الروسية العسكرية، أو على الأقلّ عن “تبادل رئاسل” ودّ بين الطرفين عبر “المرسال” الروسي.
وقد يكون من باب المبالغة، أو تحميل الأمور ما لا تحتمل في هذين الجانبين، القول إنّ ما تشهده سوريا من تطورات مصدرها الجانب الروسي والدور الذي يقوم به تصب في إطار جهود تقوم بها موسكو لإخراج إيران من الأراضي السورية في إطار صفقة قد تحاول موسكو عقدها مع واشنطن في سياق تبادل المصالح في منطقة الشرق الاوسط.
طهران “لا ترغب” في حصول أيّ تطور على مسار السلام السوري الإسرائيلي في هذه المرحلة قبل أن تتضح الصورة التي سيكون عليها تعاطي الإدارة الأمريكية الجديدة برئاسة جو بايدن مع الملفات الحيوية للنظام الإيراني. إلا أنّها قد لا تقف حجر عثرة أمام إي تطور إيجابي على هذا المسار يضمن الحقوق السورية في استعادة الأراضي المحتلة في مرتفعات الجولان ويفتح الطريق أمام تحريك العملية السياسية وإعادة الإعمار، ولا تؤسس لتغيير جوهري في شكل السلطة، أو على حساب عرقلة المسار المرسوم للإنتخابات الرئاسية المرتقبة في هذا البلد والتي يفترض أن تعيد تكريس الرئيس الحالي بشار الأسد في منصبه لدورة جديدة.
طهران “لا ترغب” في حصول أيّ تطور على مسار السلام السوري الإسرائيلي في هذه المرحلة قبل أن تتضح الصورة التي سيكون عليها تعاطي الإدارة الأمريكية الجديدة برئاسة جو بايدن مع الملفات الحيوية للنظام الإيراني
طهران لم تعارض سابقاً دخول النظام السوري في مسار تفاوضي مع الجانب الإسرائيلي، وإن كان بشكل غير مباشر. بل واكبت بشكل حثيث وعن قرب المفاوضات التي جرت عام 2007 بين دمشق وتل أبيب في العاصمة التركية أنقره وبرعاية من الحكومة التركية. وقد ناقشت طهران تفاصيل ما جرى التباحث حوله في هذه المفاوضات مع الوفد السوري المفاوض. وكان في عضويته شخصية تعتبر اليوم من أبرز ااشخصيات المعارضة للنظام ويقيم حالياً في الولايات المتحدة الأميركية حيث يعمل في مركز بحثيّ. وهو كان زار طهران بعد انتهاء الجولة الأولى، في مهمة لوضع القيادة الإيرانية السياسية والعسكرية في أجواء ما جرى في أنقره، التي لم تقف حجر عثرة أمام المفاوضات التي ذهب إليها الرئيس السابق حافظ الأسد وقادها وزير الخارجية السوري فاروق الشرع مع رئيس الورزاء الإسرائيلي إيهود باراك برعاية الرئيس الأميركي الأسبق بيل كلينتون في كامب ديفيد. وقدمت للأسد الأب موقفا متقدماً عندما دعمت عدم موافقته على انتشار الجيش اللبناني في المناطق الجنوبية بعد الانسحاب الإسرائيلي عام 2000 في مسعى لدعم الموقف السوري أمام المفاوض الأميركي والإسرائيلي. أما الإختلاف الحاصل هذه المرة فيكمن في الوسيط الجديد، إذ حلّت موسكو مكان تركيا وأميركا في لعب هذا الدور، في حال كان ما تسرّب صحيحاً.
إلا أن ما تخشاه طهران، أن تؤثر هذه العملية وهذا المسار على وضع حليفها في لبنان، وأن يؤدي أي تقدم على خط التفاوض السوري الإسرائيلي، إلى الرضوخ للأصوات الداخلية اللبنانية التي تطالب بتحويل المفاوضات حول ترسيم الحدود البحرية إلى عملية تفاوض من أجل السلام. على العكس مما يرغب فيه حزب الله الذي لا يريد بلوغ هذه النقطة قبل التوصل إلى تفاهمات على علاقة بوضعه داخل التركبية اللبنانية وشراكته في السلطة بشكل أساسي، بشكل يخرج المكوّن الذي ينتمي إلبه من التهميش التاريخي إلى شريك حقيقي على قدم المساواة مع الشركاء الآخرين.
هناك تكهّنات تدور حول إمكانية أن تلجأ موسكو إلى إضعاف الدور الإيراني في سوريا تهميداً لإخراجه، وإذا ما كانت قد أطلقت مسار التفاوض السوري الإسرائيلي. طهران في المقابل تؤكد على أنّ التفاهمات القائمة بين الطرفين على الساحة السورية قد وصلت إلى مرحلة متقدمة استطاعا خلالها رسم حدود الدور والنفوذ دون الخشية أن تصل الأمور إلى المواجهة أو أن يكون وجود واحد منهما على حساب الآخر. فالدخول الروسي إلى سوريا جاء نتيجة مفاوضات مطوّلة بين الجانبين على قاعدة التفاهم حول المصالح الاستراتيجية والتكتيكية لكلّ منهما. وقرار المشاركة جاء تتويجاً لاجتماع مطوّل بين الرئيس فلاديمير بوتن وبين الجنرال قاسم سليماني في موسكو وانتهى بحسم قرار التدخل ضمن الشروط الروسية. شروط أكّدت على مسلمات أساسية أبرزها التزام موسكو بأمن إسرائيل لاعتبارات دولية وروسية من بينها أن موسكو تعتبر نفسها مسؤولة عن سلامة الجنود الإسرائيليين في الجيش وأجهزة المخابرات. باعتبار الشباب اليهود الروس يشكلون عماد هاتين المؤسستين وأنّ أي عملية عسكرية أو حرب مع إسرائيل تعني إمكانية وقوع خسائر بين هؤلاء وبالتالي ستكون موسكو في مواجهة موجة من الهجرة اليهودية المعاكسة وهو ما لا تريده. فضلاً عن رغبة موسكو بالانتقال للعب دور محوري في عملية السلام الشرق أوسطية، خصوصاً بعد تراجع دور الرباعية الدولية. من هنا كان الحرص الروسي على التوصل إلى تفاهم مع قائد قوّة القدس في حرس الثورة الإيرانية الجنرال قاسم سليماني وقيادة حزب الله على إبعاد القواعد العسكرية لهما عن حدود الجولان كمدخل لطمأنة الجانب الإسرائيلي الرافض لاستمرار هذا الوجود بأي شكل من الأشكال.
هناك تكهّنات تدور حول إمكانية أن تلجأ موسكو إلى إضعاف الدور الإيراني في سوريا تهميداً لإخراجه، وإذا ما كانت قد أطلقت مسار التفاوض السوري الإسرائيلي
ترتيب الساحة السورية والانتقال إلى تفعيل مسار الحلّ السياسي، قد لا يتعارض مع رغبة حزب الله الذي أعلن أمينه العام السيد حسن نصرالله عن انتهاء العلميات العسكرية والحرب والانتصار على الجماعات السورية المسلحة بما يؤكد استمرار النظام وبقاءه، وأن الوجود المتبقي لمقاتليه تفرضه بعض الأمور التي لا تعتبر مهمة قتالية. وقد أكّد أنّ هذا الوجود مستمرّ طالما لم تطلب الحكومة السورية منه الانسحاب. بالإضافة إلى ذلك، فإن إيران وقوى المحور الذي تقوده تعتبر أنّ أيّ تراجع على الساحة السورية يؤثر سلباً على الموقف الإقليمي لإيران ودورها على خارطة الشرق الأوسط، خصوصاً أنّ الصراع الحقيقي على تقاسم هذه المنطقة يدور بين طهران وتل أبيب.
وإذا ما كانت هذه الخطوة تشكل بداية نسبية لعودة الحزب إلى لبنان، إلا أن ذلك لا يعني انتهاء دوره ومهمته الاقليمية، لأنّها تدخل في إطار رؤية استراتيجية للمحور والتصدّي لأيّ خطر قد تتعرض له دوله أو القوى المنضوية تحت لوائه. لذلك فإنّ أيّ اختلال في موازين المعادلة السورية لغير صالح المحور ستسمح له بأن يكون على أتم الاستعداد للتدخل. خصوصاً أنّ معادلة الدخول الروسي قامت على تعاون بين المشاة أو القوات البرية التي حشدتها قوى المحور بقيادة الجنرال سليماني وأمين عام الحزب، وبين القوات الجوية الروسية، وأن ما تحقّق يعتبر نتيجة هذا التنسيق. ويدرك الطرفان صعوبة تحقيق أيّ تقدم في غياب أي منهما عن هذه المعادلة، وهو ما يفرض استمرار التعاون بينهما طالما أن الوضع السوري لم ينتقل بعد إلى نقطة الاستقرار التام التي تسمح بتخلّي أحدهما عن الآخر.
إقرأ أيضاً: لا لقاء سوري – إسرائيلي.. بل تبادل رسائل “أوّلية” عبر موسكو