لم تكن سوريا بعيدةً يومًا عن توقيع اتفاق سلام مع إسرائيل. “كان قاسيًا وذكيًّا، لكنّي حصلت منه على تنازليْن”، بهذه العبارة يصف الرئيس الأميركي السّابق بيل كلينتون في مُذكّراته لقاءه الشّهير في آذار 1999 الذي امتدّ لساعات بالرّئيس السّوري السّابق حافظ الأسد في أحد صالونات الطابق الأرضي لفندق إنتركونتيننتال بمدينة جنيف”. فندق سبق واستقبل 3 لقاءات بين رئيس أميركي والأسد منذ 1977. التنازلان اللذان استطاع الحصول عليهما من الأسد الأب يومها كانا: استعداده للاعتراف بإسرائيل مقابل الانسحاب الكامل من الجولان، واستعداده للانسحاب من لبنان مقابل “حلّ شامل لمشكلة الشرق الأوسط”.
لم يفصل دمشق وتل أبيب يومها عن التّوقيع إلا بحيرة طبريا التي كان حافظ الأسد يريد أن “يجلس على طرفها، ويلمس ماءها بقدميهِ“، رافضًا وجود الشريط الإسرائيلي على جانب البحيرة، كما قال لكلينتون خلال لقائهما الثّاني في العاصمة السّويسريّة. وفيه قدّم الرئيس الأميركي السّابق للأسد ربطة عُنقٍ زرقاء رُسِمَ عليها “أسد”، قبلها “بسعادة”، بحسب ما ذكر كلينتون في مُذكّراته التي تحمل اسم “حياتي” (My Life)، و”بانزعاج” بحسب ما يذكر وزير الخارجيّة السّوري السّابق فاروق الشّرع في مُذكّراته بعنوان “الرواية المفقودة”.
مسار المُفاوضات الجديّة هذه تُوِجَّ بلقاء عام 2000 بين وزير الخارجية السّوري فاروق الشّرع ورئيس الوزراء الإسرائيلي إيهود باراك بحضور الرئيس كلينتون في مُنتَجع “شيبردزتاون” في منطقة وست فيرجينيا الأميركية.
التزم باراك في بداية المفاوضات بوعد رئيس الوزراء الأسبق إسحق رابين بالانسحاب الى حدود ما قبل حرب حزيران 1967 في “مقابل تلبية الحاجات الأمنيّة لإسرائيل”. لكن سُرعان ما غيّر موقفه بعد أن كشفت الاستطلاعات أنّ غالبيّة الاسرائيليين ترفض التنازل عن الجولان. وعلى المقلِب الآخر، شعر الوفد السوري بالإحراج عندما سرّب الإعلام العبري “التنازلات السوريّة”. كما أثّر على مسار المُفاوضات تدهورُ حالة الأسد الصّحيّة وتركيزه على مسألة خلافته.
التنازلان اللذان استطاع الحصول عليهما من الأسد الأب يومها كانا: استعداده للاعتراف بإسرائيل مقابل الانسحاب الكامل من الجولان، واستعداده للانسحاب من لبنان مقابل “حلّ شامل لمشكلة الشرق الأوسط
رحل الأسد الأب وتولّى نجله بشّار الرئاسة، بعد 6 أشهر من اللقاء السّوري – الإسرائيلي. فتوجّهت وزيرة الخارجيّة الأميركية يومها مادلين أولبرايت، بزِيّها الأسود الشّهير، إلى “القرداحة”، مسقط رأس الأسد و”عرينه”، في إشارة لاستكمال الانفتاح الأميركي على سوريا مُقابل تسهيل عمليّة السّلام.
اليوم، وبعد 21 عامًا من الصّورة الشّهيرة لجلوس فاروق الشّرع على الطاولة وجهًا إلى وجه مع إيهود باراك، وما شهدته المنطقة وسوريا من أحداث غيّرت وجهَ الشّرق الأوسط، توالت أنباء عديدة من مصادر مُختلفة عن لقاءٍ عُقِد في قاعدة حميميم الرّوسيّة على السّاحل السّوري بين وفدٍ سوري وبين عضو هيئة الأركان الإسرائيلية غادي آيزنكوت. قيل في بعض الأنباء إنّ رئيس النّظام بشّار الأسد ترأسّ وفد بلاده، وفي رّوايات أخرى، نائبه للشؤون الأمنية اللواء علي المملوك، بمشاركة المستشار الأمني في قصر المهاجرين بسّام حسن. وذلك برعاية قائد القوات الروسية في سوريا ألكسندر تشايكوف.
مصادر دبلوماسيّة روسيّة نفت لـ”أساس” الرّوايات عن عقد لقاء سّوري – إسرائيلي في حميميم: “الأخبار غير صحيحة على الإطلاق وهي تدخل في إطار الشائعات الأميركيّة لضرب محور إيران وزعزعة الثّقة بين أركانه”. وفي الوقت عينه، لم ينفِ المصدر تبادل الرّسائل والمطالب عبر موسكو بين دمشق وتل أبيب.
وبحسب المصدر الروسي، فإنّ “المطالب التي أرسلتها دمشق عبر موسكو لم تتضمّن إطلاقًا العودة إلى جامعة الدّول العربيّة، كون هذا المطلب حلّه موجود لدى الرّياض والقاهرة وليس في تل أبيب. بل تضمّنت وقف الغارات والكفّ عن دعم بعض المجموعات المُعارِضة والتفاوض حول مصير هضبة الجولان التي لا يزال نظام الأسد متمسّكًا بها كشرطٍ رئيسي للجلوس في مفاوضات علنيّة مع تل أبيب”.
أمّا تل أبيب، فاشترطت قبل أي تفاوض، أن يقطع الأسد علاقته بطهران وحزب الله وأن يخرجهما من الأراضي السّوريّة بالكامل، في مقابل وقف الغارات وبدء محادثات جديّة. ويُلاقي هذا المطلب تأييدًا مُبطّنًا من موسكو المُنزعجة من الوجود الإيراني في سوريا، والطّامحة لبسط نفوذها السياسي والأمني الكامل من الساحل السّوري وصولًا إلى البوكمال وعين عرب وباب الهوى.
وقال المصدر الرّوسي إنّ موسكو تدعم مطلب دمشق بشأن هضبة الجولان، وتأمل أن تضغط الإدارة الأميركية الجديدة على إسرائيل لفرض واقعٍ جديد يستطيع أن يضع المسألة السّوريّة – الإسرائيليّة على السّكة الصحيحة طالما أنّ النوايا موجودة لدى الجانب السّوري. باعتبار أنّ هذا ما عبّر عنه الرّئيس الأسد في تصريحه الشّهير قبل أشهر.
مصادر دبلوماسيّة روسيّة نفت لـ”أساس” الرّوايات عن عقد لقاء سّوري – إسرائيلي في حميميم: “الأخبار غير صحيحة على الإطلاق وهي تدخل في إطار الشائعات الأميركيّة لضرب محور إيران وزعزعة الثّقة بين أركانه”
واعتبر المصدر أنّ حصول اتفاق سلام سوري إسرائيلي في ظلّ وجود نتنياهو واليمين المُتطرّف – الذي يرفض التنازل ولو عن “شبر” في الجولان – على رأس السّلطة الإسرائيلية، هو أمر غير ممكن حاليًا. إلّا أنّ التواصل غير المباشر وتبادل الرّسائل قد يكون مُفيدًا للمراحل المُقبلة.
وأكّد على التوازي ضرورة قراءة ما قاله وزير الخارجيّة الرّوسي سيرغي لافروف بتأنٍّ عن أنّ روسيا لا تريد سوريا ساحة للمواجهات الإسرائيلية والإيرانية، وأنّ بلاده لن تشتبك مع الولايات المتحدة في سوريا لكنّها تطالب واشنطن بعدم استخدام القوّة ضدّ المنشآت التابعة لـ”الحكومة السورية”.
إقرأ أيضاً: نتنياهو يستقبل بايدن بتصعيد عنيف في سوريا.. ماذا عن الاتفاق النووي الجديد؟
كما وكشف لافروف للمرّة الأولى أنّ بلاده طلبت من تل أبيب تزويدها ببيانات عن “مصادر قلقها” في سوريا. إذ جاء كلامه بعد أيّام من غارات هي الأعنف على مواقع للمليشيات الإيرانية في مدينة دير الزور.
مطالب نظام الأسد لم تقتصر على الجانب الإسرائيلي، بل أبلغ الجهات المعنيّة في واشنطن، بحسب معلومات خاصّة حصل عليها موقع “أساس”، أنّه مُستعدّ لـ”التمايز في بعض المواقف والأداء” عن حلفائه في “مِحوَر المُقاومة”، إيران وحزب الله، خصوصًا فيما يتعلّق في العلاقة مع دول الخليج العربي، في مُقابل رفع عقوبات قانون قيصر وبسط النّفوذ السّوري على آبار النّفط شرق البلاد ودعم نظامه اقتصاديًا لتجنيبه اللجوء للاستعانة بطهران مادّيًا. وهذا ما يفرض ضغطًا إيرانيًا على النّظام السّوري بالإضافة إلى الوجود الإيراني العسكري الذي يستطيع الأسد إخراجه من سوريا ببيان “شُكرٍ” يصدر عن الرئاسة السّوريّة”.
إلّا أنّ واشنطن لا تصبّ اهتمامها في الوقت الحالي على الملف السّوري مع انتظار بلورة الصّورة والسياسة التي سيعتمدها فريق إدارة الرئيس الجديد جو بايدن. ولهذا السّبب تجد موسكو فرصةً سانحة لتعزيز نفوذها في سوريا تحسّبًا لمُقارعتِها من قِبَل بايدن الذي لن يكون مُتساهلًا معها إطلاقاً بعد عمليّات القرصنة التي طالت مؤسسات ووكالات رسميّة أميركيّة قبل أسابيع.