لطالما كان الخلاف بين الأحزاب والشخصيات السياسية المنتمين إلى “قضية” واحدة، والذين يتحركون ضمن بيئة اجتماعية واحدة، جزءاً من اللعبة السياسية. ولطالما كانت الأحزاب والشخصيّات المسيحية الأكثر خلافاً وتنافساً و”تقاتلاً” في ما بينها منذ زمن الرئيسين بشارة الخوري وإميل إده، هذا إذا اكتفينا بالتاريخ الحديث ولم نرجع إلى صراعات الموارنة في زمن “ما قبل الجمهورية”.
فإذا كان المسلمون يضعون فكرة الإجماع في مرتبة متقدّمة ضمن منظومتهم القيمية والدينية فإنّ هذه الفكرة ليست راسخة في “الثقافة المسيحية”، على الرغم من تشارك المسلمين والمسيحيين في لبنان التركيبة الاجتماعية العربية نفسها والمرتكزة على العائلة البطريركية، وعلاقات النسب التي ترسّخ مفهوم “القائد” أو “الوجيه”، كشخص يشكّل مصدراً للإجماع. إلّا أنّه في السياسة لم تكن الأمور أبداً على هذا المنوال والشواهد التاريخية على ذلك كثيرة وفي أوقات السلم كما في أوقات الحرب.
لذلك فإنّ خلاف الكتائب والقوات لا يشكّل تجاوزاً للقاعدة التاريخية في ساحة السياسة المسيحية، بل يؤكّدها كما لو كانت الشيء الوحيد الباقي من كل التجربة السياسية المارونية في لبنان.
إذا كان المسلمون يضعون فكرة الإجماع في مرتبة متقدّمة ضمن منظومتهم القيمية والدينية فإنّ هذه الفكرة ليست راسخة في “الثقافة المسيحية”، على الرغم من تشارك المسلمين والمسيحيين في لبنان التركيبة الاجتماعية العربية نفسها
لكن الخلاف بين هذين الحزبين يحمل غالباً خاصيّة فريدة، فهو يتجاوز السياسة أو لا ينحصر بها إلى حدّ يبدو وكأن أسبابه غير سياسية بالمرّة.
يكفي للدلالة على ذلك السؤال: على ماذا يختلف الكتائب والقوّات اليوم؟ فكلاهما يدعوان لانتخابات نيابية مبكرة (مع الخلاف على أي منهما دعا إليها قبل الآخر!)، وكلاهما يعارضان عهد الرئيس ميشال عون وحزب الله كما يؤيدان حياد لبنان الذي يدعو إليه البطريرك بشارة الراعي ويردّدان دائماً أنّهما تحت “سقف بكركي”. كما أنّ كلاهما لا يقفان ضدّ المطالبة باستقالة الرئيس عون.
بالتالي فإنّ كلّ هذا التطابق في المواقف بينهما يدفع إلى القول إنّهما مختلفان لأنّهما لا يريدان أن يكونا متّفقين ولأسباب تتجاوز السياسة، أو لأنّ خلافهما هو جزء من سياسة و”استراتيجية” كلّ منهما، كأنّه حاجة لكلاهما. وهو أمر يؤكّد خاصيّة خلافهما.
وليس قليل الدلالة في هذا السياق أنّ تكون معظم ردودهما على بعضهما البعض ردوداً خارج اللحظة السياسية الراهنة. فمثلاً عندما يهاجم رئيس الكتائب سامي الجميّل القوات فهو يذكّرها بأنّها كانت جزءاً من التسوية الرئاسية التي أتت بعون رئيساً للجمهورية.
في المقابل فإنّ القوّات التي تعارض العهد تدافع عن خيارها في انتخاب عون وتبرّره مسيحياً ووطنياً، باعتبار أنّ الحالة المتردية للعهد سببها تصرفّات جبران باسيل، وهي بذلك تخفّف مسؤولية عون عمّا آلت إليه أوضاع عهده لكي لا تضطّر إلى مراجعة خيارها في انتخابه.
بالتالي فإنّ عدم جعل كلّ من القوات والكتائب استقالة ميشال عون عنواناً سياسياً رئيسياً في خطابهما ينزع عن خلافهما الحالي أي صفة سياسيّة راهنة. لأنّ هذه المطالبة تشكّل الآن في الساحة المسيحية المحكّ الذي يقاس عليه موقف الأحزاب والشخصيات السياسية المسيحيّة. ذلك مع الأخذ في الحسبان أن الكتائب لم يتصرّف في عهد ميشال عون بصفته “حزب رئاسة الجمهورية”، وهذا يعكس التحوّلات الحاصلة لا على الساحة السياسية المسيحية وحسب وإنمّا ضمن حزب الكتائب أيضاً. خصوصاً أنّ للرئيس حزبه وقد أظهرت تجربته الرئاسية أنّه يكتفي به!
القوّات التي تعارض العهد تدافع عن خيارها في انتخاب عون وتبرّره مسيحياً ووطنياً، باعتبار أنّ الحالة المتردية للعهد سببها تصرفّات جبران باسيل، وهي بذلك تخفّف مسؤولية عون عمّا آلت إليه أوضاع عهده لكي لا تضطّر إلى مراجعة خيارها في انتخابه
في السياق يمكن تذكّر حين انتقد العميد ريمون إده الشيخ بيار الجميل الجدّ، بشيء من الفكاهة. إذ خلال اجتماعات “الحلف الثلاثي” المعارض للشهابية، لم يكن الشيخ بيار يتقبّل برحابة صدر انتقادات العميد المتكرّرة للرئيس فؤاد شهاب، وذلك في دليل على النهج الكتائبي “المحافظ” في العلاقة مع رئيس الجمهورية.
إقرأ أيضاً: كلمات سمير جعجع في عميق نفوسنا
في المحصّلة فإنّ الغوص أكثر في أسباب الخلاف الدائم بين القوات والكتائب يحيل إلى خلفياته اللاسياسية والتي تتداخل فيها العوامل الشخصية والطبقية والجغرافية، وهو ما يجعله خلافاً مارونياً “أصيلاً” بالنظر إلى تطابقه مع الخصائص الطبقية والجغرافية والشخصية للعلاقات / الخلافات السياسية والشخصية ضمن الاجتماع الماروني على مرّ التاريخ، ومنها على سبيل المثال لا الحصر صراع يوسف كرم البيك الزغرتاوي مع طانيوس شاهين الفلّاح الكسرواني في منتصف القرن التاسع عشر.
وفي العودة إلى خلاف بيار الجميل وريمون إده، فقد كان الجميّل يقول ممازحاً إنّ “العميد عتبان على الله يلي خلق بيار الجميل”، فيردّ إده أنّه بكى مرتين في حياته، مرّة عندما ماتت أمّه ومرّة عندما عاد الشيخ بيار في المستشفى بعد تعرّضه لحادث سير… ولعلّ ما ينقص خلاف الكتائب والقوات هو بعض المزاح، بدلاً من البيانات الطويلة الموزعّة على النواب والمحازبين.