الطرح الفيديرالي الذي عادت مجموعات نخبوية، وتحديداً مسيحية، للتداول به، ليس معزولاً عن الظرف السياسي الراهن، بل على العكس فهو مرتبط لناحية توقيته ومضمونه ارتباطاً وثيقاً بهذا الظرف.
ففي ظلّ تفاقم الأزمة اللبنانية التي تأخذ أكثر فأكثر معاني الانهيار الشامل للدولة والقطاعات الإقتصادية / الاجتماعية الرئيسية، يُفتح المجال السياسي لشتّى الطروحات السياسية التي تحاول أن تأخذ شرعيتها من الانهيار نفسه، تماماً كما حاولت طروحات سياسيّة في سنوات الحرب، وفي مقدّمتها الطرح الفيديرالي، أن تأخذ شرعيتها من الحرب نفسها.
لذلك فإنّ عودة الطرح الفيديرالي إلى النقاش / السجال السياسي بعد نحو 30 سنة على انتهاء الحرب – التي طواها اتفاق الطائف وقد أعاد إنتاج “الصيغة” اللبنانية وفق قواعد جديدة – تعبّر في الأصل عن رفض للنظام الذي أنتجه هذا الاتفاق أكثر منها عن قدرة على إنتاج نظام بديل فيديرالي أو “اتحادي”.
أي أنّ المقاربة السياسيّة للطرح الفيديرالي يفترض أن تنطلق من كونه يمثّل اعتراضاً على “نظام الطائف” من دون أن يمتلك أدوات تغييره. وهو ما يحيل إلى تقاطع هذا الطرح مع حزب الله والتيار الوطني الحر اللذين يقيمان كل ممارستهما السياسيّة على تقويض هذا الاتفاق من خلال الانقلاب عليه من “الداخل” وبالممارسة، أي عبر تكريس أعراف في الحكم تكرّس اتجاهات الغلبة في اللعبة السياسية على حساب النصوص.
لكن وعلى الرغم من التقاطع السياسي المذكور فإنّ الدعوة إلى الفيديرالية من قِبل أوساط مسيحية، تشكّل في وجه رئيسي من وجوهها جواباً أو صدى للتناقضات الوطنية التي خلّفتها إشكالية حزب الله بوصفه حزباً يكابر على أي شكل من أشكال الإجماع الوطني، وفي الوقت نفسه يتصرّف كحزب حاكم ويسعى للتحكّم بمسارات الحكم متكئاً على رجحان موازين القوى لمصلحته ما دام محتفظاً بسلاحه خارج أي استراتيجية دفاعية وطنية.
عودة الطرح الفيديرالي إلى النقاش / السجال السياسي بعد نحو 30 سنة على انتهاء الحرب – التي طواها اتفاق الطائف وقد أعاد إنتاج “الصيغة” اللبنانية وفق قواعد جديدة – تعبّر في الأصل عن رفض للنظام الذي أنتجه هذا الاتفاق أكثر منها عن قدرة على إنتاج نظام بديل
والمفارقة أنّ حزب الله الذي يرفض الفيديرالية ويتقاطع مع الداعين إليها على رفض اتفاق الطائف، هو في الوقت عينه أكثر الأحزاب تمتعاً بوضع فيديرالي في مناطق نفوذه بالنظر إلى طبيعته التعبوية الأيديولوجية وإلى إمكاناته اللوجستية والسلاحية والمالية، ومؤسساته التي تعبّر عن “لامركزية” خاصّة به وحده. أي أنّ الحزب الذي يعبّر عن اعتراضه على الفيديرالية هو الآن أشدّ المحفزّين عليها والدافعين باتجاهها، باعتبار أنّ المطالبين بها والمنظّرين لها يعتبرونها جواباً على الإشكالية الوطنية التي يطرحها حزب الله، كما أنّها تعبّر عن رغبة الأحزاب الأخرى في التماثل مع الحزب الذي يقيم نموذجاً سياسياً واقتصادياً واجتماعياً في “بيئته” بما يمكنّه من تأبيد نفوذه فيها.
والحال هذه، فقد شكّل نموذج حزب الله السياسي / الأمني والاجتماعي طيلة الفترة الماضية إغراءً لا يقاوَم للأحزاب والبيئات الطائفية الأخرى، وخصوصاً المسيحية، بحيث جنحت هذه الأحزاب للتعبير عن رغبتها في التماثل مع الحزب وتقليده في السيطرة على الفضاء السياسي والاجتماعي لبيئته الطائفية. وليس أدلّ على ذلك من البعد الخلاصي الذي أُعطيَ لاتفاق معراب بين التيار الوطني الحر والقوات اللبنانية بوصفه اتفاقاً ينقل المسيحيين من الانقسام إلى الوحدة، تماماً كما هي الحال بين الحزبين الشيعيين حركة أمل وحزب الله.
وهذه ممارسة حزبية تضمر في العمق تقديم “وحدة الطائفة” على “وحدة البلد”، بما هي تعبير عن تقاطعات اجتماعية وسياسيّة للبنانيين خارج حدود طوائفهم الضيّقة. بالتالي فإنّ هذه الممارسة لا تهدف إلى تكريس الإنقسام الطائفي / الجغرافي في لبنان فحسب، بل تصوّر الوحدة السياسيّة للطائفة كما لو أنّها قيمة أخلاقية مُثلى. ما يجعل أي اعتراض على سلوك الأحزاب الحاكمة في طوائفها بمثابة مسّ بمصالح هذه الطائفة أو تلك، بل سلوك لا أخلاقي ولا مسؤول تجاه أبنائها. والأمثلة على ذلك كثيرة ومتعدّدة ومستمرة ولاسيّما ضمن البيئة الشيعية بعدما فشلت النزعات “الوحدوية” في سائر البيئات!
شكّل نموذج حزب الله السياسي / الأمني والاجتماعي طيلة الفترة الماضية إغراءً لا يقاوَم للأحزاب والبيئات الطائفية الأخرى، وخصوصاً المسيحية
إذ أنّ انهيار “اتفاق معراب”، بعد أشهر على انتخاب ميشال عون رئيساً للجمهورية، طوى إلى غير رجعة محاولة الحزبين المسيحيين الرئيسين، أي القوات اللبنانية والتيار الوطني الحر، تقليد “الثنائية الشيعية”، وفي الوقت نفسه إقامة توازن متخيّل معها ضمن اللعبة السياسية. مع العلم أنّ القوات كانت الأشدّ دفعاً باتجاه تظهير هذا المنحى باعتباره يشكّل رادعاً سياسياً وأخلاقياً يحميها من جنوح التيار والعهد نحو الاستئثار بالحصّة المسيحية في السلطة. بينما التيّار كحزب سلطة كانت حساباته مختلفة تماماً. فتحالفه العميق مع حزب الله يجعل كل طروحاته – بما في ذلك التلويح بالفيديرالية – وكلّ تحالفاته الأخرى، في خدمة هذا التحالف أو لتحسين شروطه فيه.
بالتالي فإنّ المطالبة أو التلويح بالطرح الفيديرالي في الأوساط المسيحية يشكّلان في اللحظة الراهنة صدى لفشلين: الأول فشل الاستراتيجية أو تكتيك القوات والتيار للتماثل / التقابل مع حزب الله – حركة أمل، والثاني فشل عهد ميشال عون الذي صُوّرَ وصوله إلى قصر بعبدا على أنّه انتصارٌ للمسيحيين، فإذا به ينقلب مصدر إحباط إضافيٍ لهم.
إقرأ أيضاً: مراجعة تاريخية مع فارس سعيد (1/2): الطائف ضمانة وجود المسيحيين وحلف الأقليات إلى تراجع
لكن اللافت أنّ العديد من الأصوات الداعية إلى الفيديرالية في الوسط المسيحي كانت في صلب ثورة “17 تشرين” وخارجة عن الأحزاب بشكل من الأشكال. ولذلك فهي بطرحها الفيديرالية لا ترمي إلى التماثل مع حزب الله بل إلى “الخلاص” من إشكاليته.
مرة أخرى إنّ الطرح الفيديرالي، ولو كان صادراً بشكل رئيسي عن أوساط مسيحية، إلا أنّه يتمحور أساساً حول “حالة” حزب الله، رفضاً لها أو رغبة في التماثل بها. ولذلك فإنّ رفض حزب الله للفيديرالية لا يأخذ معنى وطنياً وسياسياً حقيقياً ما دامت المطالبة بالفيديرالية هي في الأصل جوابٌ أو ردٌّ على الإشكالية التي يطرحها هو ويؤكّد عليها ضمن الحيّز الوطني العام. هذه الإشكالية المتمثّلة في مكابرته على عدم وجود إجماع وطني حول سلاحه، وفي سعيه في الوقت نفسه إلى إحكام سيطرته على المجال السياسي العام. وبالتالي فإنّ معارضة حزب الله للفيديرالية تعبّر عن عدم قبوله بتجزئة سيطرته على البلد أكثر منها عن حرصه على وحدة البلد، وخصوصاً عندما يغري الأحزاب – الطوائف الأخرى أو الأفراد بـ “فيديراليته” الواقعية أو ينفّرهم منها!!
غداً في الجزء الثاني: إشكاليات الفيديرالية: مفاقمة هشاشة الواقع اللبناني (2/2)