لا يكّل ولا يملّ، ولأنّه كذلك علينا حلّ، في موقع “أساس”، عزيزاً، محاوراً أسرة التحرير، في كلّ القضايا والملفات.
فارس سعيد ضيف “أساس”، يفتح كلّ الملفات في حوار شارك فيه الزملاء رئيس التحرير زياد عيتاني ومدير التحرير محمد بركات والكتّاب: حسن فحص، قاسم يوسف، هشام عليوان، إيلي القصيفي، تالا غمراوي، أحمد الأيوبي، عماد الشدياق، ابراهيم ريحان، شادي علاء الدين.
على عكس كلّ الحوارت الصحافية، يصادر فارس سعيد سؤالنا الأول مقدّماً مطالعته والتي قال إنّه حضّرها ليقولها في هذا اللقاء: “في البداية إسمح لي أن أتشرّف بوجودي في “أساس” الذي أتابعه منذ البداية، والذي أخذ مكانه بسرعة استثنائية في المسرح السياسي والإعلامي اللبناني. لقد تحوّل اليوم إلى موقع حقيقي. قبل ذلك كنا نقرأ جريدة “الأخبار” لنعرف ماذا يدور في الطرف الآخر، واليوم لا يمكن إلا أن نقرأ “أساس”، ولا يمكن أن يمرّ يوم دون أن نقرأ “أساس”. المواد الموجودة فيه تحاكي الوحدة الداخلية، وتحاكي الواقع السياسي الحقيقي، وتعطينا الأمل بأن هناك جيلاً من الكتّاب، وجيلاً من الشباب المتابع، وحامل قضية وأمانة هذا البلد. قبل أن نتحاور كنتُ بالأمس ليلاً أفكر أنّ هذه لحظة خيارات كبرى في لبنان، وليست لحظة فقط مواقف سياسية. وأنا كماروني أعود وأستعرض ما هي المحطات التأسيسية الحقيقية التي مرّ فيها لبنان، وكيف تصرّف المسيحيون في هذه المحطات.
إقرأ أيضاً: قبّعاتٌ كثيرة لرأس واحد
في العشرينات من القرن الماضي، كانت هناك محطة تأسيسية عندما انهارت الإمبراطورية العثمانية، وبدأ الإنتداب الفرنسي والبريطاني للمنطقة، ووُضع المسيحيون أمام لحظة خيارات. ربما كان غالبيتهم سيذهبون باتجاه أن يكون لبنان وطناً قومياً مسيحياً وملجأً لأقليات المنطقة. لكنّ أقلية مسيحية بقيادة البطريركية آنذاك ذهبت إلى خيار دولة لبنان الكبير القائم على العيش المشترك. لقد كانت الغالبية مع لبنان وطن قومي مسيحي، وطنٌ – ملجأٌ لأقليات المنطقة، وكان الأرمن بدأوا يطلّون ومعهم الكلدان. انهيار الإمبراطورية العثمانية والمرحلة الانتقالية أدّتا إلى اضطرابات وإلى نكبات في المنطقة، وكان الميل الطبيعي بما أنّه تخلصنا من الإمبراطورية العثمانية وانهارت، أنّ هناك مجالاً لأن نجد من يستمع إلينا. أساساً، رئيس الوزراء الفرنسي جورج كليمنصو ما كان يريد الاستماع للبطريرك حويك، وهو كان ماسونياً وكان يقول إنّه جاء لينتدب منطقة غالبيتها مسلمون: “فإذا استقبلت رجل دين مسيحياً فسأضطر لاستقبال رجال دين مسلمين، وأنا لا أريد استقبال رجال دين مسلمين”. وكانت مرحلة “جاكوبية علمانية” في فرنسا، وبدأت الثورة البلشفية في روسيا عام 1917، والموجة العلمانية تجتاح كلّ النخب الأوروبية. جرت وساطات آنذاك وتدخلات واستقبل كليمنصو الحويك ناس أخيراً، لكنهم أوصوه أن لا يتحدّث كمسيحي، وأنك رجل دين وعليك أن تتحدّث عن دولة مدنية، وبالفعل تحدّث عن دولة يطلب أن يكون الانتساب إليها انتساب المواطن أكان مسلماً أم مسيحياً، وكان هذا أول نص قدّمه الحويك من موقعه كرجل دين. شقيق الحويك كان مع القائلين بأنّ لبنان جزءٌ من سوريا، وطبعاً لم تكن غالبية المسيحيين مع الثورة العربية، بل كانت مع نظرية أنّ جبل لبنان وطنٌ وملجأٌ مسيحي.
في العام 1943 وصلوا إلى خيار آخر. الفريق الواسع منهم كان يقول إنّ لبنان الكبير مرتبط ببقاء الانتداب الفرنسي، بمعنى أنّه إذا أردتم لبنان الكبير، فعلى الانتداب الفرنسي أن يبقى كضمانة خارجية، لأنّ الضمانة الداخلية التي هي ضمانة التفاهم الإسلامي – المسيحي، لن تؤدي إلى قيام دولة، وستطيح بلبنان الكبير، بسبب وجود أقلية مسيحية وغالبية من المسلمين السنّة الذين لم يكونوا مع الاستقلال، بل كانوا مع أنّ لبنان جزءٌ من سوريا.
كنتُ بالأمس ليلاً أفكر أنّ هذه لحظة خيارات كبرى في لبنان، وليست لحظة فقط مواقف سياسية. وأنا كماروني أعود وأستعرض ما هي المحطات التأسيسية الحقيقية التي مرّ فيها لبنان، وكيف تصرّف المسيحيون في هذه المحطات
بعد أربع سنوات كتب جورج نقاش في الـ”لوجور”: نعرف ما لا يريده المسيحيون، هم لا يريدون لبنان جزءاً من سوريا، ونعرف ما لا يريده المسلمون، هم لا يريدون بقاء الانتداب الفرنسي. ولكن لا نعرف ماذا يريد المسيحيون والمسلمون معاً، ولذا، فإنّ نفيين لا يصنعان وطناً.
مرّت الأيام ووصلنا إلى عام 1989 مع اتفاق الطائف الذي يقول إنّ المسيحيين يريدون نهائية كيان لبنان، والمسلمين يريدون لبنان عربي الهوية والانتماء. ولأوّل مرّة في تاريخ لبنان المعاصر وقّع المسلمون جميعاً على وثيقة مكتوبة تقرّ بنهائية كيان لبنان. ولأوّل مرّة وقّع المسيحيون، جميع المسيحيين، على عروبة لبنان وانتمائه العربي. وعليه، فإن إيجابيتين صنعتا وطناً، وأجاب الطائف على جورج نقاش بعد 65 سنة”.
أنهى الضيف مقدمته وبدأ الحوار:
حسم الخيارات المسيحية
– هل ندمت تلك الأقلية المسيحية وتلك الأقلية السنية على هذا الخيار؟
– أوّلاً شجاعة الأقلية المسيحية في مواجهة الغالبية في العشرينيات وإلى عام 1943، والتمسّك باستقلال لبنان لم تكن قليلة، ولكنهّا فشلت في بناء دولة مُقنعة. فالمسيحيون استبدلوا مؤسساتهم بزعامات. وبعد ذلك، همّشت الثنائية المارونية – السنية بشكل أساسي طوائف أخرى. الدروز يعتبرون أنفسهم أمّ اختراع فكرة البلد عندما خرجوا عام 1860 مهزومين بالسياسة ومنتصرين بالعسكر. وانتظروا كمال جنبلاط في 1948 لإعادة استنهاضهم، وهو لم يتحدّث كدرزي. هو تحدّث فلسطينياً، وتحدّث عربياً، وتحدّث شيوعياً، وتحدّث يسارياً، وتحدّث سوفياتياً وتحدّث أممياً إلى أن عاد وربط شروال بعقلين مع التجربة اللبنانية الداخلية. أما الشيعة فقد تهمّشوا أيضاَ، الثنائية المارونية – السنية كانت أيضاً ثنائية بورجوازية حاكمة. الريف السني انتظر كميل شمعون لمواجهة البورجوازية في المدينة، وحينها خرج من إقليم الخروب، القاضي والضابط والناظر والأستاذ، وهذا عمل كميل شمعون الذي دخل إلى الريف السني في الإقليم، والذي ما زال ينتخب كميل شمعون. إذ هناك عائلات تنتخب ابن كميل شمعون حتّى الآن.
وليس مصادفة أنه في بداية الحرب الأهلية، كانت زعامة الحركة الوطنية درزية اسمها كمال جنبلاط، والأمين العام للحركة الوطنية كان شيعياً اسمه محسن إبراهيم، يعني أنّ الاعتراض العريض ركب على اليسار، وعلى أيديولوجيا يسارية، وعلى فلسطين، ووصل كمال جنبلاط إلى أن أصبح محرّك الجوّ السني، حتى أنّه أزعج الأنظمة العربية فكلفوا أحد الأنظمة بتصفيته.
شجاعة الأقلية المسيحية في مواجهة الغالبية في العشرينيات وإلى عام 1943، والتمسّك باستقلال لبنان لم تكن قليلة، ولكنهّا فشلت في بناء دولة مُقنعة
نحن اليوم أمام مرحلة مطلوب فيها من المسيحيين وطبعاً من اللبنانيين، ولكن من المسيحيين خصوصاً، أن يحسموا خيارهم، وليس أن يتخذوا موقفاً سياسياً. الموضوع ليس موضوع ميشال عون وسمير جعجع والحكومة وسعد الحريري. هناك تيارات إسلامية من غير العرب، اسمها تركيا واسمها إيران، وإسرائيل صارت جزءًاً من نظام المصلحة العربية، والعرب حسموا خيارهم، والصهاينة يعملون وفق خيارهم، وبتفاهمهم مع العرب، من المغرب إلى الخليج، خرجوا من نظرية تحالف الأقليات في المنطقة. فقبل حافظ الأسد وقبل الإيرانيين، من اخترع تحالف الأقليات هم اليهود في المنطقة، وهم عرضوها على أقليات المنطقة، عرضوها على العلويين، وعلى الدروز، وعلى المسيحيين، وعلى الموارنة، وعلى الأكراد وعلى كلّ أقليات المنطقة.
وأمام انهيار السبب الوجودي لقطاعات المسيحيين في الداخل، المصرف، والجامعة، والمستشفى، والمرفأ، واقتصاد التجارة، والعلاقة مع العالم العربي والخارجي، وأمام التحوّلات الكبرى الحاصلة في المنطقة، ودخول نفوذ إسلامي غير عربي، وانهيار النظام العربي القديم، والتفاهم الحاصل اليوم بين إسرائيل وما تبقى من العالم العربي، فما هو الخيار الذي أمام المسيحيين اليوم من أجل ضمانة مستقبلهم في هذه المنطقة.
هذه المرحلة لا تقل أهمية عن مرحلة الـ20 أو الـ43، بل ربما هي أخطر وأهم، ويتعلّق الوجود بخيارهم في هذه المرحلة، لضمان مستقبلهم ومستقبل عائلاتهم في هذه البقعة من العالم العربي. الخيار الانكفائي، واسمه “الذهاب إلى الفيدرالية”، و”لبنان الأصغر”، هو خيار لا أفق له. كما أنّ خيار أن يكون لبنان جزءاً من كيان أكبر لا أفق له أيضاً، خصوصاً بعدما أنهينا المعادلة في الـ89 مع اتفاق الطائف، مع نهائية كيان لبنان مقابل هوية لبنان العربية.
اليوم من هي القوى السياسية الحقيقية التي ستحمل مسؤولية وأمانة إعادة طرح هذه المواضيع أمام المسيحيين. السُنة قالوا “لبنان أولاً” عام 2005 مع استشهاد رفيق الحريري. الدروز اليوم انكفأوا على إدارة مدنية وينتظرون على ضفّة النهر. الشيعة اليوم في وضع القيادة السياسية، وهم يلتفون حول الطائفة في وجه التحدّيات. هل يقدر المسيحيون في هذه اللحظة على لعب دور يعيد إليهم الموقع الوطني اللبناني وحتى التقدمي العربي؟ أم أنّهم ذاهبون إلى انكفاء أكثر وأكثر وإلى تهميش أكثر وأكثر. هناك 400 مليون سني في العالم العربي في الحدّ الأدنى، وما من مشروع يمكن أن يمرّ بدون توقيعهم، أكانت قيادتهم في لبنان مدركة أم غير مدركة، تعرف أو لا تعرف.
الطائف والدرجة الإضافية للمسلمين
– تعقيباً على ما تفضّلت به بالنسبة للأنظمة، هناك قبول للتركي عند الشعب أكثر بكثير من الزعامات أو النخب السنية؟
– هذا أيضاَ يتعلّق بتنامي النفوذ الإيراني في لبنان، وبشعور عند السنة بانكفاء قيادتهم السياسية. ودعمهم لأردوغان لا يرتكز على دعم فكرة الإسلام السياسي التي يقدّمها أردوغان بقدر ما انهم يعتبرون أنّه رافعة مقابل الوزن الموجود من خلال النفوذ الإيراني.
– هناك أصوات مسيحية سمعناها منذ أيام، مثل كلام المونسنيور كميل مبارك، وعلى “mtv” تحديداً، وقد كان مستفزّاً حديثه عن 12 فيدرالية، وحصره السنّة في طرابلس وصيدا، والمشكلة أنه عندما ذهب السنّة إلى “لبنان أولاً” كان المسيحيون راجعين من الحجّ.
– كميل مبارك وغير كميل مبارك يعبّر عن الأزمة الحقيقية التي يعيشها المسيحيون في هذه اللحظة، ويعبّرون عنها أحياناً بصوت كميل مبارك الذي يذهب باتجاه لبنان الأصغر وأحياناً بأصوات أخرى. منذ عشر سنوات في لقاء قرنة شهوان عندما كنا نطالب بخروج الجيش السوري من لبنان، كان هناك مسيحيون يقولون لنا إن البلد ممسوك وغير متماسك، ووصاية سوريا على لبنان هي التي تضمن أمن المسيحيين، لأنه إذا خرجت سوريا من لبنان، فإن الديموغرافيا الإسلامية مع الفلسطينيين والتوطين وغير ذلك سيأكلون المسيحيين، وهذا طبعاً كان خطاباً شعبياً تسمعه عند إميل لحود وعند الكثير من المسيحيين.
أمام انهيار السبب الوجودي لقطاعات المسيحيين في الداخل، وأمام التحوّلات الكبرى الحاصلة في المنطقة، ودخول نفوذ إسلامي غير عربي، وانهيار النظام العربي القديم، والتفاهم الحاصل اليوم بين إسرائيل وما تبقى من العالم العربي، فما هو الخيار الذي أمام المسيحيين اليوم من أجل ضمانة مستقبلهم في هذه المنطقة
– إميل لحود كان بهذا التوجه؟
– تناوبت القيادات المسيحية على فكرة تحالف الأقليات، وليس صحيحاً أنّ من اخترعها هو ميشال عون، وليس صحيحاً أنّ ميشال عون هو الذي ذهب إلى هذا الخيار بداية هذا التحالف مع العلويين في سوريا حصل مع بداية الحرب الأهلية. وربما كانت حججهم في مكان ما محقّة لأنّهم خافوا من هذا المدّ اليساري الفلسطيني، وهذا الهجوم الذي كان بقيادة كمال جنبلاط، والذي يمكن أن يطيح بكل المكتسبات التي أسّسوها خلال الجمهورية الأولى… فذهبوا وبحثوا عن ضمانات خارجية. لكنّ هذا البحث عن الضمانات الخارجية مثل بحث السُنة اليوم عن ضمانات خارجية، وأنا لا أبرّر للمشروع التركي أن يكون في لبنان بحجة أنّ الآخر عنده مشروع إيراني، فهذا المنطق لا يؤدّي إلا إلى انفجار البلد.
– أكثر قيادات المسيحيين يتعاطون مع الطائف وكأنّه مجرم سلبهم حقوقهم؟
– المسيحيون بشكل عام، وأنا لا أتحدّث بالتفصيل عن القوى السياسية، صُوّر لهم الطائف على أنّه أنزلهم درجة في النظام، وأعطى المسلمين درجة إضافية.
– هل هذه حقيقة؟
– كلا ليست حقيقة، وأنا أعتبر أنّ الطائف عادل، لا بل أكثر من ذلك. أنا أعتبر أنّ الطائف هو ضمان العيش المشترك في لبنان، وأنّ الخروج عن اتفاق الطائف خروج عن هذه الميثاقية الإسلامية – المسيحية. الضمانة الحقيقية للبنان اليوم لجميع الطوائف وعلى رأسهم المسيحيين، هي التمسك الحرفي بتنفيذ وثيقة الوفاق الوطني والدستور اللبناني، خصوصاً أنّ قرارات الشرعية الدولية 1559 و1701 مبنية على اتفاق الطائف، وأيّ اهتزاز لاتفاق الطائف قد يؤدّي أيضاً إلى اهتزاز قرارات الشرعية الدولية. وهذا شيء يجب أن نعرفه جميعاً، ويجب مناقشته مع المسيحيين ومع المسلمين، ومع الجميع. هذه هي الوثيقة الحقيقية التي يجب أن نتمسك بها، ولا ننسى أنه لا يوجد دستور في سوريا، وفي العراق يتمّ البحث عن صيغ دستورية، وفي اليمن لا يوجد دستور، والخليج وضعه خاصّ. وفي مصر هناك حكم عسكري قائم وموجود.
غداً في الحلقة الثانية: رضوان السيّد يداهم لقاء “أساس” مع فارس سعيد.