“أنا إلى جانبكم، لكن لا أستطيع أن أكون معكم في الصورة”، هذا ما أبلغه الرئيس المكلّف سعد الحريري إلى الرؤساء الثلاثة، حين طرحوا عليه أن يكون إلى جانبهم، مع وليد جنبلاط، وربما سمير جعجع ونبيه برّي (مع حفظ الألقاب) في جبهة تواجه محاولات الرئيس ميشال عون للقضاء على اتفاق الطائف.
في المقابل، هناك نوع من التخبّط، يمكن قراءته في مانشيت “النهار” أمس الذي نقل عن مصادر “المستقبل” أنّ “موقفها السياسي قد يكون أقرب إلى تشكيل جبهة سياسية تطالب بإسقاط رئيس الجمهورية، لكنّ رئيس التيار هو الرئيس المكلّف وواجبه أن يدوّر الزوايا وألا يدخل في جبهات تمنع التأليف”. ما يعني أنّنا أمام عدم اتضّاح الرؤية السياسية لدى “المستقبل”، بين الانضمام إلى جبهة كهذه، أو الوقوف إلى جانبها لكن خارج صورتها، وبين رفض دعمها بحجّة “تدوير الزوايا”.
الأخطر أنّه فور تسريب الأخبار عن الإجتماع الذي عقد بين رؤساء الحكومة السابقين (فؤاد السنيورة وتمام سلام ونجيب ميقاتي) ووليد جنبلاط، بحثاً عن صيغة سياسية لاستعادة التوازن والوقوف بوجه عبثية رئيس الجمهورية ميشال عون وتخطيه للدستور واتفاق الطائف، حتّى بدأ الرؤساء في التبرّؤ من دم الصديق.
كلٌّ على طريقته بدأ يسحب يده من مضمون الإجتماع، تماماً كما انسحب الرئيس الحريري من الوقوف معهم. علماً أنهم في كواليسهم ولقاءاتهم “المغلقة” يقولون أكثر بكثير مما يمكن أن يُقال في ورقة مكتوبة بينهم بحقّ عون. ذاك الذي أخذ يطيح بكلّ ما تبقى من مرتكزات الدولة، ويطيح بمكتسبات المسيحيين قبل المسلمين.
تدلّ المسارعة إلى نفي مضمون الإجتماع، وأنّه غير موجّه ضدّ رئيس الجمهورية أو ضدّ العهد، وأنّه لا ينطوي على تشكيل جبهة معارضة، على الأزمة العميقة التي تعيشها القوى السياسية اللبنانية، وخصوصاً من يعتبرون أنفسهم ممثلين للسنّة.
كلٌّ على طريقته بدأ يسحب يده من مضمون الإجتماع، تماماً كما انسحب الرئيس الحريري من الوقوف معهم. علماً أنهم في كواليسهم ولقاءاتهم “المغلقة” يقولون أكثر بكثير مما يمكن أن يُقال في ورقة مكتوبة بينهم بحقّ عون
أزمة عميقة لها أبعاد اجتماعية ونفسية، تتضمّن الارتكاس إلى صورة معمّمة عن السنّة المفترض بهم عدم اتخاذ أي موقف سياسي حرصاً على مشاعر المسيحيين أو خوفاً من تخويفهم أو وضع أنفسهم في موضع “المنتَقَد مسيحياً”.
هذه النزعة النفسية لدى المسلمين عموماً والسنّة خصوصاً، تنطوي على عقدة نقص تسهم في تهميش دورهم وفعاليتهم، وهم الذين يعيشون في هاجس إرضاء المسيحيين ولو كانوا على خطأ. لم يسأل أحدٌ منهم: أين هم المسيحيون الذين يقفون إلى جانب عون؟ فرنجية؟ جعجع؟ الجميّل؟ الثوّار؟ لا أحد إلى جانب عون، ولا حتّى العونيين انفسهم الذين بدأو ينفضّون من حوله. فلماذا التردّد؟
لهذه المشكلة أبعاد وتبعات بعيدة المدى، تدفع رؤساء الحكومة إلى الاختباء وراء أصابعهم، ووراء ما يسمونه “عيشاً مشتركاً”، فيتنازلون عن أبسط حقوقهم السياسية في المعارضة أو تكوين الموقف السياسي الذي يقتنعون به، خصوصاً أمام إهانة للرئيس المكلّف مثل التي تسبّب بها الفيديو الموزّع عمداً من القصر الجمهوري، الذي يتّهم به عون الحريري بأنّه “كذّاب”.
خسارة هذا الحقّ، هو نتاج تاريخ طويل من الاستسلام أمام اتهام جاهز عرف حزب الله والتيار الوطني الحرّ كيف يستثمرانه ويغذّيانه إلى أقصى الحدود. فعندما يعارض السنّة، يُتّهمون إما بالتطرّف والداعشية، أو يتم تخوينهم وتحليل دمائهم. فيسارعون إلى أداء فروض الطاعة.
علماً أنّ التيار الوطني الحرّ انقلب، ولا يزال، على كل مرتكزات ورموز السنّة: منذ الانقلاب على حكومة الحريري إلى ممارسات تتجاوز الطائف وتضربه وتهشّم صلاحيات الرئاسة الثالثة، من دون إقامة أيّ اعتبار للعيش المشترك، ومن دون التحسّب من الفتنة. وحزب الله لديه تاريخ معروف في هذا المجال، تهديداً، ترهيباً، وتعطيلاً سياسياً. لتلتقي سياسة الطرفين على مشروع واحد أدّى إلى ضرب كلّ مقوّمات “السنيّة السياسية” وتحطيم ما تبقّى من صلاحيات أو أدوار للسنّة في النظام اللبناني.
هذه النزعة النفسية لدى المسلمين عموماً والسنّة خصوصاً، تنطوي على عقدة نقص تسهم في تهميش دورهم وفعاليتهم، وهم الذين يعيشون في هاجس إرضاء المسيحيين ولو كانوا على خطأ
منطق التهرّب الذي اتّبعه رؤساء الحكومة بعد اجتماعهم، لن يسهم إلا بالمزيد من الخسارات والتنازلات. مع العلم أنّ الورقة التي تتم مناقشتها، استقت معظم بنودها من لقاءات الحوار الوطني، سواء بالحفاظ على اتفاق الطائف أو احترام الدستور أو البحث في الاستراتيجية الدفاعية أو ترسيم الحدود أو تطبيق القوانين وعدم الخروج عن الثوابت وتجنّب الإخلال بالتوازنات.
هنا لا بد من تسجيل بضع ملاحظات على الأداء السياسي الذي يضطّلع به رؤساء الحكومة السابقون، أو الرئيس المكلف سعد الحريري، أو كل من يعارض توجهات رئيس الجمهورية ميشال عون:
أولاً: الخوف من ردّة الفعل المسيحية أو من تكوّن جبهة مسيحية ضدّ توجه رؤساء الحكومة هو خوف غير مبرّر، لا سيما أنّ أصوات مسيحية كثيرة خرجت تطالب باستقالة رئيس الجمهورية، فيما لم يجرؤ قادة السنّة “الرسميين” على مثل هذه المطالبة.
وهناك مواقف مشهودة وإن كانت خجولة أو غير مباشرة: رئيس حزب القوات اللبنانية سمير جعجع يقف على حافّة الدعوة إلى الاستقالة لكنّه بالطبع ليس إلى جانب عون هذه الأيام. رئيس حزب الكتائب سامي الجميّل ذهب أبعد من جعجع، ورئيس تيار المردة دعا عون علناً إلى الإستقالة. كذلك لقاء سيدة الجبل وعلى رأسه فارس سعيد، وهناك شخصيات مسيحية ورجال أعمال مستقلّون يتحضّرون لإطلاق وثيقة سياسية معارضة لتوجهات عون وتصرفاته وتضمن الحفاظ على المناصفة وعلى الدستور بدلاً من التخريب الذي سيؤدي إلى المثالثة.
ثانياً: ليس صحيحاً أنّ البطريرك الماروني بشارة الراعي يعارض استقالة رئيس الجمهورية. بل كان للبطريرك مواقف عديدة لا بد لها أن تشكّل قوة دفع سياسية لمعارضي عون. فهو يحمّله مسؤولية التعطيل، ودعاه إلى المبادرة لإصلاح العلاقة مع الرئيس المكلف بعد الفيديو – الفضيحة. وهذا بحدّ ذاته يفترض اعتذاراً يقدّمه رئيس الجمهورية إلى الحريري.
لا يمكن لبطريرك الموارنة أن يخرج بتصريح ليعلن مواجهة رئيس الجمهورية أو يخوض من خلاله معركة إسقاطه. وهذا ليس مطلوباً من البطريرك، علماً أنّ تصريحاته الرافضة للاستقالة كانت تأتي رداّ على أسئلة تطرح عليه، ومن البديهي أن يكون جوابه مماثلاً، بينما لو كان هناك موقف سياسي واضح لدى معارضي عون فلن يكون بإمكان من يستشعر مسؤولية لدى المسيحيين من الخروج عنه.
ثالثاً: مرّ التسريب المهين من قبل رئيس الجمهورية بحقّ رئيس الحكومة المكلف مرور الكرام، على رؤساء الحكومة السابقين، وعلى الرئيس المكلف أيضاً، الذي لا يزال يفكر وفق منطق تشكيل الحكومة حصراً ولا يريد المواجهة مع عون ووضع النقاط على الحروف حتى الآن. بالتالي هي حالة استسلام كاملة لا تصيب السياسيين فقط، إنّما تصيب كلّ المرجعيات التي يفترض أن تستنفر دفاعاً عن الموقع والدور والصلاحيات والكرامات. خصوصاً أنّها ليست المرّة الأولى التي يمسّ فيها عون برموز سواء كانت مسيحية أو إسلامية، وهو من الذين يبرّرون لأنفسهم كل أساليب الفجور في سبيل مصلحة سياسية.
رئيس حزب القوات اللبنانية سمير جعجع يقف على حافّة الدعوة إلى الاستقالة لكنّه بالطبع ليس إلى جانب عون هذه الأيام. رئيس حزب الكتائب سامي الجميّل ذهب أبعد من جعجع، ورئيس تيار المردة دعا عون علناً إلى الإستقالة
رابعاً: لا بد من تسجيل عتب – وربما أكثر من ذلك – على المسيحيين في لبنان الذين لم يخرجوا بمواقف اعتراضية على ما بدر من عون، بحقّ رئيس مكلف بتشكيل الحكومة، بخلاف مواقف المسلمين الذين يحرصون دوماً على مبدأ العيش المشترك والحفاظ على المكتسبات السياسية التي أرساها منطق المناصفة، وفي ذلك أبعاد اجتماعية قد تنطوي على الشعور المسيحي بأنّ ما جرى لا يعنيهم ولا يمسّهم، وهذا أخطر ما يمكن، لأنّه يمهّد لنزعات تقسيمية أو تفريقية بين القوى والجماعات. وأوّل المعاتبين هو البطريرك الراعي الذي يعلم أكثر من غيره أنّ الرئيس المكلّف بتشكيل الحكومة أياً يمكن إنّما يقوم بمهمة وطنية لكلّ لبنان وليس لطائفته فقط.
خامساً: في بعض تبريراتهم لعدم اتّضاح مشروعهم السياسي المعارض للعهد ولرئيس الجمهورية، ما يهمس به رؤساء الحكومة من أنّه لا يمكن الرهان على وليد جنبلاط في قيادة أي حركة أو ثورة أو مشروع سياسي، إذ يعتبرون أنّه قد يغيّر موقفه عندما تتغيّر الظروف أو تحصل هناك تطورات. لكنّ هذا الكلام يدينهم أكثر ما يفيدهم في تغطية أنفسهم. كلامهم هذا يفترض أن يدفعهم إلى الريادة وقيادة هذه الحركة الإعتراضية وشدّ عصبها وتقوية عودها، بشكل لا يسمح لا لجنبلاط ولا لغيره أن يجهضها أو يحور مضمونها أو يضعفها، ولا حتّى أن يقودها.
إقرأ أيضاً: ليس هناك ما نخشاه في حارة حريك أو بعبدا
مشكلة السنّة السياسية، ليست في محاولات الخصوم إضعافهم دوماً، إنما في أنهّم ما عادوا يؤمنون بدورهم ولا بقوّتهم، فيرتضون الرضوخ لحسابات آنية تنطلق من مصلحة ضيّقة، إما مناطقية أو انتخابية أو حسابات رئاسة الحكومة. وهذه كلها تؤسّس إلى هوان نفسي واجتماعي نتيجته الاستمرار في عملية السحق المستمرّة بحقهم وهم يسهمون فيها منذ 2005 حتى اليوم. علماً أنّ المطلوب ليس الدخول في مواجهات يتم التهرب منها بذريعة الحفاظ على السلم الأهلي، لأنّ الصراع السياسي لا يعني خوض معارك أمنية. وما هذه إلا ذريعة لتبرير التكاسل ولا تنجم إلا عن عدم دراية وإدراك في السياسة.
وفي أبسط الأمثلة، فليكن لهم في قبرشمون وما جرى بعدها خير الأمثلة.