جيء بميشال عون رئيساً في إطار تسوية، تبيّن أنّها لم تكن تسوية من أجل إنقاذ الجمهورية، بدءاً بسدّ الفراغ في رأس الهرم. انتهى الأمر بأن لبنان صار جمهورية تمتلك ماضياً ولا تمتلك مستقبلاً. ما عجز اتفاق القاهرة المشؤوم عن تحقيقه في العام 1969، من تدمير كامل للبنان، تحقّقه حالياً وثيقة مار مخايل للعام 2006، التي أوصلت القائد السابق للجيش إلى قصر بعبدا في 31 تشرين الأوّل 2016.
كان يمكن للمشهد ان يكون هزلياً لولا أنّ ما على المحكّ مصير بلد أو شعبه ومصير شبابه. هناك رئيس للجمهورية، هو ميشال عون، يتّهم رئيس الوزراء المكلّف سعد الحريري بـ”الكذب” في شأن تقديم لائحة بأعضاء حكومته إليه. يحدث ذلك فيما سبق لميشال عون الاعتراف في تغريدة للرئاسة اللبنانية يوم التاسع من كانون الأوّل الماضي بالآتي: “الرئيس عون استقبل الرئيس المكلّف سعد الحريري الذي قدم له تشكيلة حكوميّة كاملة. في المقابل، سلّم الرئيس عون الرئيس المكلّف طرحا حكوميا متكاملا يضمن توزيعا للحقائب على أساس مبادئ واضحة”.
ما حصل يوم الاثنين في الحادي عشر من الشهر الجاري اختصار لعهد ميشال عون الذي يتبيّن كلّ يوم أكثر أنّه ليس سوى “عهد حزب الله”. من كان يتوقّع، منذ البداية، أن يكون عهد ميشال عون مختلفاً، هو مثل من كان يتوقّع خيراً من توقيع لبنان اتفاق القاهرة بين الدولة اللبنانية، ممثلة بقائد الجيش وقتذاك إميل بستاني، وبين منظمة التحرير الفلسطينية ممثّلةً بشخص ياسر عرفات، في تشرين الثاني 1969، برعاية مباشرة من جمال عبد الناصر…
كان يمكن للمشهد ان يكون هزلياً لولا أنّ ما على المحكّ مصير بلد أو شعبه ومصير شبابه. هناك رئيس للجمهورية، هو ميشال عون، يتّهم رئيس الوزراء المكلّف سعد الحريري بـ”الكذب” في شأن تقديم لائحة بأعضاء حكومته إليه
وقع اتفاق القاهرة، قبل ما يزيد على نصف قرن، من أجل تكريس لبنان “ساحة”. غطاه الزعماء المسيحيون، باستثناء رجل بعيد النظر اسمه ريمون ادّه، من أجل وصول أحد هؤلاء الزعماء إلى موقع رئيس الجمهورية. لم تكن وثيقة مار مخايل التي وقعها ميشال عون في السادس من شباط 2006 مع حسن نصرالله، الأمين العام لـ”حزب الله”، سوى ممرّ إلى رئاسة الجمهورية. لا تزال رئاسة الجمهورية عقدة مارونية بامتياز. إنّها عقدة العقد التي أوصلت لبنان إلى ما وصل اليه، أي إلى دولة فاشلة على كلّ المستويات. مخيف أن تكون هناك شخصيات مارونية مستعدّة لأيّ شيء، بدءاً بتغطية اتفاق القاهرة… وصولاً إلى توقيع وثيقة مار مخايل، من أجل الوصول إلى رئاسة الجمهورية.
قبل توقيع اتفاق القاهرة وبعده، ارتكب زعماء مسلمون لبنانيون، في مقدّمهم رئيس الوزراء السنّي رشيد كرامي، أخطاءً كثيرة، بل قاتلة. اعتبر هؤلاء أنّ في استطاعتهم التخلي عن سيادة لبنان على جزء من أرضه للمقاتلين الفلسطينيين، وأن يمرّ هذا من دون ثمن. لم يقدّر الزعماء المسيحيون بدورهم ما سيترتب من نتائج عن مثل هذا العمل الأرعن الذي لم يأخذ في الاعتبار، في أي لحظة موازين القوى في المنطقة والعالم.
يدفع لبنان حالياً ثمن المحاولة الأخيرة لإنقاذ ما يمكن إنقاذه في العام 2016، أي ما سمّي “التسوية الرئاسيّة”. أسوأ ما في الامر أنّ الشخص الذي اختير لتنفيذ هذه المهمّة لا علاقة له بالإنقاذ من قريب أو بعيد. ثمّة أجندة وحيدة في البلد، هي أجندة “حزب الله”، الذي ليس سوى لواء في “الحرس الثوري” الإيراني.
يعيش لبنان حالياً على وقع هذه الأجندة التي آخر همّ لها مصير لبنان وشباب لبنان واقتصاد لبنان وموقع لبنان على خريطة المنطقة. ليس أفضل من رئيس الجمهورية الحالي ومن صهره جبران باسيل لتنفيذ هذه الأجندة تحت شعار “استعادة حقوق المسيحيين” في بلد يحتاج قبل ذلك إلى استعادة الجمهورية ومؤسساتها، بما في ذلك مؤسسة رئاسة الجمهورية نفسها.
يدفع لبنان حالياً ثمن المحاولة الأخيرة لإنقاذ ما يمكن إنقاذه في العام 2016، أي ما سمّي “التسوية الرئاسيّة”. أسوأ ما في الامر أنّ الشخص الذي اختير لتنفيذ هذه المهمّة لا علاقة له بالإنقاذ من قريب أو بعيد
ليس معروفاً كيف يمكن لرئيس الجمهورية أو لجبران باسيل وضع كلّ العراقيل الممكنة واختراع كل نوع من المماحكات من أجل منع تشكيل حكومة اختصاصيين حسب المبادرة الفرنسيّة. يفعلان ذلك في وقت يعرف الطفل أنّ لبنان في حال يرثى لها وأنّ الانهيار حصل… وأنّهما تكفلا حتّى الآن بتهجير أكبر عدد من المسيحيين من لبنان.
لا بدّ من أن يكون المرء غبيّا، إلى إبعد درجة، كي ينسى أنّ أكبر عملية تهجير للمسيحيين حصلت في العامين 1989 و1990 عندما كان ميشال عون في قصر بعبدا رئيساً لحكومة مؤقتة وكان يعتقد أنّ صدّام حسين سيهزم أميركا ويقضي على حافظ الأسد بعدما اجتاح العراق الكويت.
إقرأ أيضاً: إنّه مصير لبنان وليس مصير الرئيس
ليس ما يشير إلى وجود مكان للمنطق في لبنان الذي باتت تحكمه أجندة “حزب لله” وتتحكّم به. ما يؤكّد ذلك تصرّف رئيس الجمهورية وصهره وكأّن النظام المصرفي لا يزال قائماً، وأنّ الليرة اللبنانية ما زالت صامدة، وأنّ تفجير مرفأ بيروت لم يحصل، وأنّ الجامعات والمدارس والنظام التعليمي في أفضل حال، وأن لا كورونا (كوفيد – 19) في البلد، وأنّ المستشفيات اللبنانية لا تزال مستشفيات الشرق الأوسط، وأنّ السياح العرب والأجانب يملأون فنادق بيروت والجبل، وأنّ الشوارع خالية من النفايات، وأن الناس تتزاحم من أجل دخول المطاعم وكازينو لبنان… وأنّ الصحف والمجلات والفضائيات والاذاعات اللبنانية بألف خير!
ما الذي يمكن توقّعه من رئيس للجمهورية وصهره اللذين يعتقدان أنّ كلّ شيء طبيعي في لبنان وأن لا سلاح شرعياً فيه غير سلاح الجيش اللبناني وأن لا وجود للسلاح الإيراني وأن لا اجندة من أيّ نوع لـ”حزب الله“.
ما يمكن توقّعه أمر في غاية البساطة. المشكلة الوحيدة لهذا الأمر أنّه من رابع المستحيلات. هذا الأمر هو استعادة حقوق المسيحيين في لبنان بواسطة سلاح “حزب الله” بصفته سلاحاً غير ميليشيوي وغير مذهبي ولا علاقة له بايران، بل وأنّ الحزب جمعية خيرية لا هدف لها سوى خدمة ميشال عون وجبران باسيل وما يريدانه ويسعيان إليه… لوجه الله!