لا مجال لأيّ نوع من الأوهام لدى التعاطي مع “العهد القوي”، الذي هو “عهد حزب الله”. مثل هذا العهد لن يفرج عن الحكومة من دون ضغوط كبيرة عليه شبيهة بتلك التي أخرجت العماد ميشال عون، قائد الجيش وقتذاك ورئيس الحكومة المؤقتة، من قصر بعبدا في الثالث عشر من تشرين الاوّل من العام 1990.
هل ظهرت بوادر لمثل هذه الضغوط تدعو إلى بعض التفاؤل وإن بحدود معيّنة؟
لا حاجة إلى كثير من التحليلات والتفسيرات والاجتهادات لمحاولة فهم طبيعة العقبات التي تحول دون تشكيل حكومة اختصاصيين، بالفعل، برئاسة سعد الحريري تلبي الحدّ الادنى من المطلوب بموجب المبادرة الفرنسية.
يعود ذلك إلى سببين، أوّلهما أنّ ما يسمّى “العهد القوي” لا يستوعب عمق الأزمة اللبنانية التي تطرح هل ميشال عون سيكون آخر رئيس للجمهورية اللبنانية بشكلها الحالي؟ مثل هذه الأزمة ليست من النوع العابر، بل ذات طابع في غاية الخطورة نظراً إلى أنّها تضع على المحكّ مصير بلد فقد كلّ المقوّمات التي قام عليها منذ تأسّس قبل مئة عام. فقد لبنان كلّ الأسس التي مكّنته من الاستمرار مئة عام منذ إعلان دولة الكبير في أوّل أيلول من العام 1920 وصولاً إلى تفجير مرفأ بيروت في الرابع من آب 2020.
من المفيد التذكير بأنّ لبنان مدرسة وجامعة ومصارف وفنادق ومطاعم وملاهي وخدمات واقتصاد حرّ ومستشفى واعلام ومسرح… وشاطئ وجبل وسياحة واصطياف. الأهمّ من ذلك كلّه أنّ لبنان بلد عربي منفتح على محيطه وليس ضاحية فقيرة من ضواحي طهران.
نجح العهد في تحويل لبنان إلى مجرّد تابع لإيران ليس إلّا. من سوء حظّ لبنان أن تُفتتح مفاوضات ترسيم الحدود البحريّة والبرّية مع إسرائيل بضوء أخضر إيراني وأجندة إيرانية. تتوقف المفاوضات بعدما أثبتت “الجمهورية الإسلامية” مدى قدرتها على التحكّم بالوضع اللبناني. من يمتلك القدرة على بدء مفاوضات لبنانية – إسرائيلية ثم تعليقها، بين ليلة وضحاها، إنّما يستطيع عمل كلّ ما يريده في لبنان!
فقد لبنان كلّ الأسس التي مكّنته من الاستمرار مئة عام منذ إعلان دولة الكبير في أوّل أيلول من العام 1920 وصولاً إلى تفجير مرفأ بيروت في الرابع من آب 2020
متى يعي “العهد القوي” أنّه لم يبق شيء من مقومات وجود لبنان بعد انهيار النظام المصرفي واحتجاز أموال اللبنانيين والعرب والأجانب… وبعد تفجير مرفأ بيروت، مع كلّ ما يعنيه ذلك على غير صعيد؟ لم يكن تفجير المرفأ تفجيراً لإحدى بوابات لبنان مع الخارج فحسب، بل كان أيضاً تفجيراً لبيروت نفسها وعملية مدروسة تصبّ في تدمير جزء من الاقتصاد الذي يسيطر عليه المسيحيون في لبنان ويعتاشون منه في احياء الجمّيزة والمدوّر والرميل والاشرفية ومار مخايل تحديدا… وفي وسط بيروت نفسها الذي يكن له “العهد القوي” كلّ ما يمكن تصورّه من كره وحقد في آن. مع تفجير المرفأ، سقط رئيس الجمهورية، استقال ام لم يستقل. صار مطروحا مصير البلد…
أمّا السبب الآخر الذي يستدعي التأخير في تشكيل حكومة، فيعود إلى عجز “العهد القوي” عن استيعاب أنّه عاجز عن فهم المعادلات والتغييرات التي تشهدها المنطقة والعالم. هناك اعتقاد راسخ لدى العهد بأنّ شيئاً لم يتغيّر في لبنان والمنطقة وأنّ “محور المقاومة والممانعة” سينتصر وسيأتي بجبران باسيل رئيساً للجمهورية خلفاً لميشال عون.
مثلما لم يدرك ميشال عون أنّ حليفه صدّام حسين انتهى في الثاني من آب 1990، يوم احتلاله للكويت، لا يريد أخذ العلم بأنّ “العهد القوي” انتهى يوم تفجير ميناء بيروت. لن ينقذ الرجل القوي في “العهد القوي”، أي جبران باسيل، لا حكومة يشارك في تشكيلها ولا شيء آخر من هذا القبيل. ليس القرار القاضي بفرض عقوبات على صهر رئيس الجمهورية مرتبطاً بإدارة ترامب فحسب، إنّه قرار أميركي ينتقل من إدارة إلى أخرى.
لعلّ أخطر ما هو مطروح أنّ الإعلان عن استقالة رئيس الجمهورية تأخّر. لم تعد القضيّة قضيّة استقالة ميشال عون بمقدار ما أنّها قضيّة إعادة تركيب البلد والأسس التي سيحصل عليها ذلك؟
الأمر الوحيد الأكيد أنّه لم يعد مسموحا لـ”حزب الله” تقرير من يكون رئيس الجمهورية الماروني في لبنان، كما حصل مع ميشال عون الذي قبل أن يكون في قصر بعبدا بأيّ ثمنٍ كان.
مثلما لم يدرك ميشال عون أنّ حليفه صدّام حسين انتهى في الثاني من آب 1990، يوم احتلاله للكويت، لا يريد أخذ العلم بأنّ “العهد القوي” انتهى يوم تفجير ميناء بيروت
عاجلاً أم آجلا، سيزداد الوضع اللبناني تدهوراً. سيكون مطلوباً في مرحلة معيّنة إنقاذ ما يمكن إنقاذه من لبنان. لا يزال الفاتيكان مهتماً باستمرار الوجود المسيحي في لبنان، كذلك أوروبا، إذ بدأت ألمانيا تلعب دوراً أكثر نشاطاً من الماضي. إضافة إلى ذلك، توجد علاقة قويّة بين البابا فرنسيس والرئيس جو بايدن، ثاني رئيس كاثوليكي في تاريخ الولايات المتحدة، بعد جون كينيدي.
إقرأ أيضاً: من “لبنان أوّلاً”… إلى “جبران باسيل أوّلاً”
لم يعد سرّاً أنّ هناك اهتماماً دولياً بلبنان. ما ليس معروفاً متى سيتبلور هذا الاهتمام على أرض الواقع بما هو أبعد من التمنيات والعقوبات؟ قد يكون السؤال الأهمّ كم يستطيع لبنان الصمود، كذلك هل هناك ما يمكن أن يوقف هجرة الشبّان المسيحيين منه قبل فوات الأوان وقبل أن يصبح المسيحيون في البلد أقلّية مهمّشة على غرار ما حصل في سوريا؟
ثمّة من سيعتبر أنّ المقارنة لا تصحّ بين الثقل المسيحي في لبنان والثقل المسيحي في سوريا. لكنّ الردّ على هذا الافتراض أنّ مثل هذا الكلام صحيح لولا أنّ “العهد القوي” جعل من مثل هذه المقارنة ممكنة. إنّه عهد قَبِلَ فيه أن يكون ميشال عون رئيساً للجمهورية بشروط “حزب الله”… وهو أيضاً عهد لم يدرك فيه لا ميشال عون ولا جبران باسيل معنى رفض إجراء تحقيق دولي في تفجير مرفأ بيروت!