انشقاق كبير يحدث يوماً بعد يوم بين الجمهوريين – المحافظين وبين الجمهوريين – الشعبويين في الولايات المتحدة الأميركية. موضوع من أكثر ما هو جدير بالمتابعة.
الحزب الجمهوري بشكل عام يعيش صدمة، أو مجموع صدمات. فنادرة هي المرّات التي خسر فيها رئيس أميركي فرصته في ولاية ثانية. وبعد استحواذهم على الأكثرية في مجلس النواب انتزع الديموقراطيون الأكثرية في مجلس الشيوخ مؤخّراً، من بوابة مقعدي ولاية جيورجيا. لهم في الشيوخ نصف ما للجمهوريين سوى أنّ الدستور يعطي لنائبة الرئيس، أي لكمالا هاريس بعد تولية جو بايدن، الكلمة الراجحة عند التصويت. لكن كلّ خسارة المؤسسات الدستورية لصالح الديموقراطيين ليست وحدها ما يعصف بالجمهوريين. الأزمة في معسكرهم أعمق.
فالخطّ الجمهوري المحافظ لم يغطِّ تعنّت دونالد ترامب في رفض النتائج، لكنّه بات يشعر الآن، وبعد غزوة الجموع الترامبية للكابيتول، بما هو أدهى. بات يشعر من في هذا الخطّ بأنّهم ارتكبوا إثماً سابقاً أتاح كلّ هذا، بعدم صدّهم ترامب عن مصادرة حزبهم لسنوات.
صحيح أنّ منهم من تحفّظ بل امتعض من ترامب منذ البدء، لكنّ ترامب، وبخلاف من كان ينتظر أن ينفجر الحزب الجمهوري في وجهه مبكراً، تمكّن من استمالة ماينستريم الجمهوريين، وتحوّل هؤلاء إلى حجر عثرة تحول دون كلّ مساعي الديموقراطيين طيلة ثلاث سنوات لأجل عزل الرئيس. في الوقت نفسه لم يستطع ترامب تشكيل طاقم إدارة على درجة من الاستمرارية حوله. كرّت سبحت الاستقالات في إدارته، ثم أتى كتاب مستشار الأمن القومي جون بولتن من بعد استقالته لإعطاء صورة مزرية عن هذه الإدارة.
الخطّ الجمهوري المحافظ لم يغطِّ تعنّت دونالد ترامب في رفض النتائج، لكنّه بات يشعر الآن، وبعد غزوة الجموع الترامبية للكابيتول، بما هو أدهى
لم يستطع ترامب تشكيل حكومة بالمعنى الأميركي النسبي للكلمة. إذ لا مجلس وزراء في النظام الأميركي. لكنّه هيمن على الحزب الجمهوري مأخوذاً ككلّ، واقتنع “ماينستريم” الحزب بأنّ ترامب حصان رابح على غير ما جرى الاعتقاد من قبل. فهو كسب الانتخابات بوجه هيلاري كلينتون، ولو من دون الأكثرية الشعبية، ثم أخذت المؤشرات الاقتصادية تتحسن بسرعة في عهده، وبدت سياسته الخارجية، على رعونتها الأسلوبية، تتمم نظرية المتظاهر بالجنون التي سوّغ لها هنري كسينجر قبل نصف قرن، حيث أنّ تظاهرك بالجنون وبأنّه لا يمكن توقع أفعالك الهجومية بمقدوره أن يجعلك تحصد مكاسب في مواجهة أخصامك أو منافسيك.
بعد هذا كان التراجع المتزامن مع تفشي وباء كورونا. أخذ أقطاب الحزب الجمهوري يتململون من هراء رئيسهم وهو يستهين بأمر الوباء. ومع هذا ساروا معه حتى الانتخابات. لكنّهم لم يستطيعوا متابعة ذلك بعد خسارته. فهم محافظون، معنيين إذاً بأن تكون للحياة الدستورية والسياسية الأميركية تقاليد تراعى، في حين أنّ الشعبويين عابثون أساساً بهذه التقاليد. لكن ما يشعر به المحافظون الذين باتوا مخاصمين لترامب الآن بين الجمهوريين أنّهم فرّطوا بهويتهم هذه كمحافظين في السنوات الماضية. يستذكر بعضهم كيف وقف أقطاب الحزب سريعاً ضد نيكسون بعد فضيحة ووترغيت، وكيف تأخروا عن الوقوف ضدّ ترامب. مطواعيتهم أكثرهم له طوال سنوات هي أكثر ما يزعجهم، في مقابل مجافاة قليل منهم له بشكل ثابت.
سؤال الجمهوريين – المحافظين: كيف حصل لنا ذلك؟ كيف خضعنا لترامب لسنوات. وفي المقابل هم يشرعون بالتعامل مع أنفسهم على أنّهم يولدون من جديد، من اللحظة التي قالوا فيها “لا” لمزاعم ترامب بعد إذاعة النتائج، فقرّروا حينها عدم مجاراته. وإذا كان قسم منهم قد تفهّم نفسياً مكابرة رئيسهم، غير أنّ هذا الاتجاه الجمهوري المحافظ صُدِمَ تماماً بمشهد اقتحام الكابيتول، وبات يعتبره مشهداً مدمّراً للحزب، إلا إذا مضى الحزب في القطيعة مع ترامب والترامبية بلا تردّد. لقد سايروا الترامبية عندما اقتنعوا من بعد تردّد أو عزوف أنّها بالفعل حصان رابح. ثم تفرّقوا عندها حين خسرت، لكنّ لحظة الكابيتول تدفعهم إلى أكثر: إدانة هذا الانحراف، وعدم المكابرة على شعورهم بالخجل. الخجل من أنّ ترامب احتُسِبَ عليهم.
الاتجاه الجمهوري – الشعبوي على النقيض من ذلك. ترامب عنده هو الأصدق، ومن صدقيته هذه يقيس الأمور. وبما أنّه عبر بشكل أصدق من سواه عن كل شيء، إذاً فهو يمتلك الرواية الأكثر صدقية عن نتائج الانتخابات الرئاسية. فالمسألة هنا ليست دلائل وشواهد، بل استدلال بصدقية ترامب نفسه، وهنا الطامة الكبرى.
سؤال الجمهوريين – المحافظين: كيف حصل لنا ذلك؟ كيف خضعنا لترامب لسنوات. وفي المقابل هم يشرعون بالتعامل مع أنفسهم على أنّهم يولدون من جديد، من اللحظة التي قالوا فيها “لا” لمزاعم ترامب بعد إذاعة النتائج، فقرّروا حينها عدم مجاراته
ترامب ليس ابن “الإستبلشمنت” ويتكلم بارتجالية وبهلوانية وبلا ضوابط. إذاً فهو لا يكذب، إذاً فالنتائج المبثوثة هي التي تكذب. إذاً فمحاولة ثنيهم عن قناعتهم بحقّه في تجديد الولاية هي محاولة ثنيهم عن الحقيقة. الحقيقة لا دليل عليها إلا صدقية ترامب المفترضة. أنّى لمتصنّع مثل بايدين أن يجيء فوزه حقيقياً وهو ينتقي كلماته؟ من ينتقي كلماته يكذب، من يرتجل يقول الصدق، بما في ذلك إذا ما ارتجل نتائج على هواه. هل هذا ضرب من الغباء عند هذا الرهط من الناس؟ سهل قول هذا. هناك غباء نعم، لكن هناك شيء آخر، وأهم، هي شعورهم بأنّ ترامب “من أولاد الناس”، ومن الضروري مناصرته في وجه “الإستبلشمنت”. ثري ومن أولاد الناس. في آن واحد، بوجه التحالف الهجين المعادي، الذي يضم من هم أثرى بأضعاف مضاعفة من ترامب، مع الطبقة الوسطى البيضاء على الساحلين الشرقي والغربي للبلاد، مع الأقليات الجنسية والدينية والعرقية. بوجه أكثر البيض. بيض الداخل والجنوب.
أكثرية الأكثرية البيضاء أقلية حين يتحالف عليها أقلية من البيض مع أكثرية من الأقليات. بهذه الحسبة يغتاظ هؤلاء الشعبويون. أنّى لأكثرية الأكثرية أن تُعامل كأقلية؟ هذا هو سؤالهم العرقي الصميم. يحصل ذلك لأنّ هناك خيانة عرقية. بيض يخونون أكثرية البيض. هؤلاء عندهم هم مزيج من كبار المحتكرين ومن اليسار. يتخيل الشعبويون أنّ هناك يساراً فعلياً ويحمل مرامٍ اشتراكية داخل الحزب الديموقراطي، بل يتصوّرون أنّه متغلغل في الحزب الجمهوري نفسه. يبدو المشهد من جهتهم كما لو أنّ كمالا هاريس تقتبس يوماً بيوم من كلاسيكيات ماركس وإنجلس وروزا لوكسمبورغ. في الوقت نفسه معركتهم مع الاحتكارات، وجاء حجب ترامب عن تويتر ليعزّز ذلك. معركتهم مع محتكري الـ GAFAM (كلمة تختضر غوغل وآبل وفيسبوك وأمازون ومايكروسوفت).
هل يمكن عدّ هذا المناخ الشعبوي فاشياً؟
الجمع بين معاداة لشركات رأسمالية كبرى وبين إحياء معاداة الاشتراكية أو حمل رسم لترامب كقاطع رأس كارل ماركس، هذا الجمع بحدّ ذاته فيه طرف فاشية. فالفاشية نظرت لنفسها أساساً كنزعة وسطية، ضدّ الرأسمالية المطلقة وضدّ الصراع الطبقي المفتوح. النظرة إلى الفاشية كتطرّف، هذه من خارجها. في المقابل، الفاشية انوجدت تاريخياً في مواجهة عدوّ إيديولوجي فعلي: الشيوعية. الخوف الزائد من الشيوعية زائد الشكوى من مآل ايطاليا من جهة وألمانيا من جهة أخرى، بعد الحرب العالمية الأولى، هو الذي فتح الطريق إلى كلّ من الفاشية والنازية. إن تلبّس جو بايدين لباس ليون تروتسكي لن يجعله ليون تروتسكي. من دون الشيوعية ليس للبرجوازية من حاجة للفاشية. الفاشية كما كان يعرفها الزعيم الشيوعي البلغاري جيورجي ديمتروف هي الشكل الإرهابي من ديكتاتورية البرجوازية، عندما تشعر البرجوازية بأنّ الشكل الديموقراطي لسيطرتها لا يحميها. هذا في مقابل منظار آخر داخل التراث الماركسي يعطي المحورية أكثر لدور البرجوازية الصغيرة في تشكيل الفاشية. غايته، في الحالتين، ليس هناك مثل هذا في حالة الشعبوية. عدوّ الشعبويين في الولايات المتحدة هو أنفسهم قبل أيّ شيء آخر. هو غرقهم في هذه المتاهة: أنّ البيض أكثرية، لكن عندما تنحاز أكثرية من البيض لخيار شعبوي، تكبر الأقلية من البيض المعترضة على ذلك، فإذ تُضاف إليها الأقليات تخرج أكثرية الأكثرية من معادلات الحكم. هذا التفكير يصعب عليه تقبل نتائج انتخابات لكنّه تفكير مسجون سلفاً في الحسابات الانتخابية على أساس العرق، وحسابات عرقية على أساس الانتخابات.
أكثرية الأكثرية البيضاء أقلية حين يتحالف عليها أقلية من البيض مع أكثرية من الأقليات. بهذه الحسبة يغتاظ هؤلاء الشعبويون. أنّى لأكثرية الأكثرية أن تُعامل كأقلية؟ هذا هو سؤالهم العرقي الصميم
انشقاق بين اتجاهين، أحدهما لن يجد صعوبة في انتزاع القالب التمثيلي للحزب الجمهوري، لكنّ الآخر سيؤول إلى تشكيل دينامية حزب جمهوري شعبوي إما موازٍ، وإما دينامية مشاغبة على تخوم آلة الحزب، تفتر حيناً ويشتدّ أزرها حيناً آخر، بحسب الظرف، وليس بالضرورة أن يقودها ترامب. الأرجح ألا يعود الترامبيون بحاجة إلى ترامب.
الحزب الجمهوري منقسم بعمق، سواء اتّخذ هذا العمق شكل انفصال بين كيانين أو لم يتخذ بهذه المباشرة.
إقرأ أيضاً: الشعبوية وصعود ترامب وسقوطه!
أما أميركا فهي من ناحية مقسومة أكتر من قبل، ومن ناحية متحدة أكثر من قبل. لأنّ “الماينتسريم” الديموقراطي الرابح و”الماينتسريم” الجمهوري المحافظ المتطهر من ترامب، آخذان في التماهي عملياً، بوجه الغلاة والمتطرّفين. وغزوة الكابيتول تأخذ عند “الماينتسريم” بُعداَ أساسياَ: الحماسة لعزل الغلاة سواء كانوا أقصى يمين أو أقصى يسار. هناك أكثرية ديموقراطية في الكونغرس، لكن بات يمكن إضافة اكثرية الأقلية الجمهورية لها أيضاً، كجزء من حزب حرّاس الكابيتول الكبير. الشعبوية هي إما على يسار وإما على يمين هذا الحزب.
في هذا بعض من المحاكاة – بالمقلوب – للتاريخ الروماني القديم. إنّما في روما، الشعبوية هي التي انتصرت بقيادة أوكتافيوس، على مجلس الشيوخ، ورفعت أوكتافيوس إمبراطوراً وسمّته أغسطس. في حين أنّ حزب “الكابيتول” الكبير، من ديموقراطييين وجمهوريين، هو الذي يهيمن تماماَ الآن، ويهمّش الشعبوية في أميركا.
إلى متى يستمر ذلك؟ ربّك عليم.