لا يُشبه العام المُنقضي أيَّ عام سابق في الكويت، على الأقلّ منذ 2005، فالمشهد السياسي اختلف جذريّاً، واللاعبون تغيّروا مع بروز جددٍ وانكفاء آخرين.
المَفصِل كان في منتصف العام الآفل، وتحديداً في شهر حزيران، عندما أعلن وليّ العهد الشيخ مشعل الأحمد، في كلمة ألقاها نيابة عن الأمير الشيخ نوّاف الأحمد، قرار حلّ البرلمان والذهاب إلى انتخابات نيابية مبكرة.
وفي شهر آب، بدأت الأمور تأخذ مجراها الدستوري والقانوني مع تشكيل حكومة جديدة لفترة انتقالية، وإعلان إجراء الانتخابات في شهر أيلول، ثمّ تشكيل الحكومة بملامح مختلفة تماماً عن سابقتها.
لا يُشبه العام المُنقضي أيَّ عام سابق في الكويت، على الأقلّ منذ 2005، فالمشهد السياسي اختلف جذريّاً، واللاعبون تغيّروا مع بروز جددٍ وانكفاء آخرين
ذروة التفاقم والعودة إلى الكويتيّين
قبل حزيران، كانت الأزمة قد بلغت مداها نتيجة تفاقم الصراع بين السلطتين التشريعية والتنفيذية، ورفع عدد كبير من النواب شعار “رحيل الرئيسين”، أي رئيس مجلس الأمّة آنذاك مرزوق الغانم ورئيس الحكومة الشيخ صباح الخالد.
لم يكن الانتظار خياراً خشية تفلُّت الأمور من عقالها مع بدء تنظيم اعتصامات في الدواوين وتكوُّن حالة شعبية تُعبّر عن احتقان قابل للانفجار.
بهدف “تصحيح المسار” من خلال “العودة إلى الشعب”، اتّخذت القيادة السياسية سلسلة قرارات غير مسبوقة، تمثّلت بحلّ البرلمان، ثمّ إجراء انتخابات تشريعية وُصِفت بأنّها “الأكثر نزاهة في تاريخ الكويت” لأنّها أُجريت على أسس جديدة قوامها اعتماد مناطق السكن في التصويت ومُحاصرة أيّ تلاعب في القيود وعدم تدخّل الحكومة بشكل مُطلق، وأفضت في النهاية إلى سيطرة “المُعارضة السابقة” على الغالبيّة النيابية.
الحكومة تتنازل للبرلمان
تلا ذلك تشكيل حكومة “مُرضِية” للنوّاب، مع تغيير رئيسها واستبعاد وزراء يرفضهم بعض النواب من تيارات سياسية مُعيّنة، فضلاً عن تنازل الحكومة عن حقّها بالمشاركة في انتخاب رئيس مجلس الأمّة ولجان المجلس، وهي خطوة لم تعرفها الكويت منذ الستّينيّات مع إقرار الدستور الذي ينصّ على أنّ الوزراء هم أعضاء في مجلس الأمّة أيضاً، لكن لا يحقّ لهم التصويت في حال مساءلة أحدهم.
هكذا انقلب المشهد تماماً وبات للكويت حكومة لها “ظهيرٌ نيابي”، وقادرة على تجاوز عقبات المُساءلة في مجلس الأمّة.
بدا ذلك جليّاً من خلال استجواب وحيد لوزيرة الأشغال والكهرباء أماني بوقماز قدّمه النائب حمدان العازمي، لكن لم يستطع أن يجمع في ختامه سوى 6 تواقيع نيابية من أصل 10 مطلوبة لطرح الثقة بالوزيرة، واتّضح من وراء ذلك عجزُ أيّ نائب (أو مجموعة من النواب) عن “خلط الأوراق” و”هزّ التسوية” الحكومية – النيابية التي بدت صلبة في أوّل اختباراتها.
لكنّ هذه “الصلابة” باتت موضع تساؤلات في الأيام الأخيرة من العام الحالي، مع بروز ملامح “تأزيم” سياسي، نتيجة طرح بعض النواب قوانين “شعبوية” تُكبّد خزينة الدولة تكاليف ضخمة لا قدرة لها على تحمّلها. وعلى رأس هذه القوانين تشريعٌ مطروحٌ حالياً أمام مجلس الأمّة يقضي بـ”إسقاط القروض” عن المواطنين، وسيكون موضع نقاش في الجلسة البرلمانية المقبلة المقرّرة في 10 كانون الثاني 2023.
وفي شهر آب، بدأت الأمور تأخذ مجراها الدستوري والقانوني مع تشكيل حكومة جديدة لفترة انتقالية، وإعلان إجراء الانتخابات في شهر أيلول، ثمّ تشكيل الحكومة بملامح مختلفة تماماً عن سابقتها
خلال مناقشة مشروع القانون في اللجان النيابة، رفضته الحكومة بشكل قاطع وأبلغت النواب بأنّه يُكلّف الخزينة نحو 23 مليار دينار، أي ما يعادل نحو 75 مليار دولار أميركي، لكنّ الجانب النيابي أصرّ على إقراره في اللجان وإحالته إلى المجلس.
ليس واضحاً حتى الآن هل من غالبية نيابية تؤيّد مشروع “إسقاط القروض”، والمشكلة أنّ تكلفة رفضِه مرتفعة على أيّ نائب، لأنّه أحد أكثر الملفّات التي تحظى بشعبية.
في ظلّ ضبابيّة المشهد، تنحصر الخيارات في اثنين:
– الأول: أن يتمّ تأجيل بحث مشروع القانون بتسوية نيابية – حكومية، وسحبه من التداول من خلال افتعال أسباب مثل “مزيد من الدراسة” أو غيره.
– الثاني: أن يسلك المشروع طريقه إلى التصويت ويُقرُّ في مجلس الأمّة، فاتحاً الباب أمام قيام الحكومة بردّ القانون ومنع إقراره، وهو ما سيؤدّي إلى انتهاء “شهر العسل” بين السلطتين و”عودة التأزيم”، وربّما تتفاقم الأمور لتصل إلى حدّ حلّ مجلس الأمّة مجدّداً.
الكويت تدخل السباق الخليجيّ
عندما أخذت القيادة السياسية قرار “تصحيح المسار”، كان هدفها الأساس والمُعلَن هو إرساء الاستقرار السياسي لتتفرّغ الحكومة لإنجاز المشاريع الكبرى وحلّ الملفّات المُزمنة لكي تتمكّن الكويت من اللحاق بالركب الخليجي الذي يسير بسرعات عالية في دول الجوار. لكن يبدو أنّ كتلة وازنة من النواب قادرة على “خلط الأوراق”، بحثاً عن أثمان ضيّقة، واضعةً السلطة التنفيذية أمام اختبار جدّيّ لمدى قدرتها على المواءمة بين إرضاء السلطة التشريعية من جهة والقيام بدورها في إطلاق المشاريع الكبرى ومعالجة القضايا المُلحّة من جهة ثانية.
هناك بعضُ من يهمس أنّ هذه “الكتلة الوازنة” لا قدرة لها على اعتراض طريق “التسوية الكبرى”، القادرة على تذليل كلّ العقبات وضمان استمرار “شهر العسل” بين السلطتين.
لكنّ البعض الآخر يُنبّه إلى أنّ المشكلة أعمق من مشروع قانون أو خلاف على ملفّ، فهي تتعلّق بفهم قسم لا يُستهان به من أعضاء السلطة التشريعية لحجم القوّة التي يمتلكونها وفق ما ينصّ عليه الدستور، ويُصرّون على استخدامها بطريقة خاطئة تجعل العلاقة مع الحكومة قابلة للتفجير في أيّ وقت.
إقرأ أيضاً: محمّد بن سلمان: ثورة حتى “العصر” الحديث..
2023 .. عام الاختبار والتحوّلات
يُذكّر هؤلاء بما ورد في خطاب وليّ العهد الشهير في حزيران الماضي، حين أعلن إجراء انتخابات مبكرة، وحذّر من أنّه في حال عودة التأزيم “سيكون لنا … إجراءات أخرى ثقيلة الوقع والحدث”.
في ظلّ هذه الأجواء، تطوي الكويت عام التحوّلات السياسية الكبرى الهادفة إلى البحث عن استقرار مفقود ونسج علاقة سليمة وسويّة بين الحكومة والبرلمان، وتستقبل عاماً جديداً يشكّل الاختبار الحقيقي لمدى إمكانية إرساء مثل هذا الاستقرار من خلال صمود التسوية بين السلطتين وتحوُّلها من “شهر عسل” إلى قاعدة دائمة.