في 26 كانون الأول الحالي توفيت الداعية الإسلامية السورية منيرة القبيسي عن عمر ناهز 89 سنة، فشغلت بوفاتها الأوساط السورية بمختلف اتجاهاتها، كما فعلت خلال مسارها الدعوي الطويل. فمن هي السيدة القبيسي وما هي دعوتها؟
ورد اسمها من بين 500 شخصية مسلمة الأكثر تأثيراً في العالم لعام 2023، وذلك وفق التقرير السنوي الذي يصدر منذ عام 2009 عن المركز الملكي للبحوث والدراسات الإسلامية في عمان، بالتعاون مع مركز الأمير الوليد بن طلال للتفاهم بين المسلمين والمسيحيين (ACMCU). ويقع مقرّه في كلية الخدمة الخارجية بجامعة جورجتاون في واشنطن.
مراتب إسلامية
من ما جاء في التقرير – وهو يكرّر ما قاله في تقرير أول عام 2009 – أن منيرة قبيسي ترأس أكبر حركة نسائية في العالم. وهي تدير 80 مدرسة في دمشق وحدها، ويتلقى التعليم فيها أكثر من 75 ألف تلميذ.
واعتبر التقرير أنه يمكن اعتبارها المرأة الأكثر تأثيراً في العالم. في التقرير الأول كانت رتبة قبيسي 31، فأضحت 24 في تقرير 2010. وفي هذا التقرير الثاني، كان ولي عهد الإمارات آنذاك محمد بن زايد في المرتبة 22، وأمير قطر السابق حمد بن خليفة في المرتبة 21، ومحمد عبد الوهاب أمير جماعة التبليغ في باكستان في المرتبة 16، والداعية عمرو خالد في المرتبة 15، والشيخ يوسف القرضاوي في المرتبة 14، وفتح الله غولن في المرتبة 13.
منيرة قبيسي فلسطينية سورية. والدها تاجر كان يتنقّل بين فلسطين وحوران. استقرّ في دمشق مع بدايات القرن الماضي
أما في تقرير عام 2023، فقد جاء ترتيب منيرة قبيسي 25 من بين أول خمسين شخصية، على رأسهم الملك سلمان بن عبد العزيز، وتقدّمت على كثير من الشخصيات الإسلامية المعروفة، فيما وردت أسماء الشخصيات الـ 450 الباقية من دون ترتيب.
القبيسيات تنظيم سري؟
لكن يمكن القول أيضاً إنّ تاريخ الدعوات الإسلامية لم يشهد مثل هذه الظاهرة من حيث النوع والحجم والتأثير في المجتمعات التي عملت فيها. وهي شكل من الأشكال الحداثية غير التقليدية في العمل الإسلامي، وإن كان الناظر إليها من خارج – ومن بعيد عن الأجواء الدينية عامة، وعن المناخ الدعوي على وجه التخصيص – قد يعتبرها حركة ردّة على نطاق واسع عن الحداثة ومكتسباتها، لا سيما ما يتعلّق بحقوق المرأة ودورها في المجتمعات المعاصرة.
الشيخة منيرة القبيسي المعرفات أتباعها من النساء بـ”القبيسيات”، وجّهت جهدها الرئيس في دعوتها النسائية نحو الشريحة العليا في المجتمع الحضري السوري، لا سيما في العاصمة دمشق: الأغنياء، وذوو النفوذ، وأحياناً كثيرة، هم طبقة واحدة. كما اعتمدت تكتيكات العمل غير العلني: في المنازل، دون أن تكون طبعاً بعيدة عن أنظار رجال الأمن وجواسيسه. فالتبست حركتها بالغموض المتعمّد، ربما لأهداف أخرى، غير الحفاظ على الجماعة من القمع الرسمي. وهي لم تتعرّض لأيّ خطر مباشر كجماعة إلى أن ظهرت علناً عام 2006، وخرجت الداعيات إلى المساجد لإقامة الدروس الدينية.
ومن هذه الأهداف المحتملة، إضفاء الهيبة والجدّيًة على العمل بشكل عام، وإخضاع الطالبات لنوع من التراتبية القيادية الصارمة، بحيث يسود الانضباط بينهن، ويكون ذلك دافعاً لجذب المزيد من المريدات، مع اللجوء إلى كل وسائل الاحتراز الممكنة، وأبرزها عدم التدخل في شؤون السياسة، واستجلاب الدعم من نافذين في الدولة، من خلال اختراق دوائرهم الضيقة: نساء الأسرة اللواتي لهنّ تأثير لا يُضاهى لا سيما في المدن، وتوفير مدارس تعليمية مخصّصة للنخبة، وكفايتها عالية تضاهي بمستواها مدارس الإرساليات التبشيرية الأجنبية (40% من المدارس الخاصة في دمشق تديرها القبيسيات بحسب الباحث عبد الرحمن الحاج في مقاله عام 2014: “الأخوات القبيسيات” .. قصة انبعاث أول حركة نسوية للإحياء الديني).
وقد يكون من الأهداف الجاذبة في ظلّ نظام قمعي روتيني كالنظام البعثي ظاهراً، الأقلوي باطناً، في سوريا الأسد، أن القبيسيات عملن على توفير شبكة أمان مجتمعية للنساء المنضويات في الحركة، فكانت باختراقها الشرائح النافذة في الدولة والحزب عقبة أمام الأجهزة الأمنية التي تمارس الرقابة الشرسة على كلّ الجماعات الإسلامية سواء أكانت سياسية إخوانية أم صوفية إرشادية، أو مشيخية تعليمية.
وهذا كله تفاقم بعد اندلاع الثورة السورية عام 2011، وانقسام الجماعات الدينية عموماً بين تأييد الثورة والتعاطف معها مع التحفّظ على بعض اتجاهاتها الفكرية (لا سيما السلفية منها)، ومعظم ممارساتها العشوائية (التي تصل إلى حدّ الفوضى المجتمعية)، أو اللوذ بمظلة النظام خوفاً منه ومن عواقب الحراك ضده، أكثر منه إيماناً بعدالته أو مشروعيته السياسية.
ويبقى مفتاح فهم جماعة القبيسيات، رصد شخصية الشيخة المؤسسة منيرة قبيسي التي فارقت الحياة في 26 كانون الأول الحالي. ومن المترحمين عليها والمُشيدين بسيرتها وعملها، أركان المجلس السوري الإسلامي المعارض للنظام وعلى رأسه الشيخ أسامة الرفاعي. وهناك من يلعنها وينعتها بأسوأ الألقاب بوصفها أداة النظام وعميلة له منذ أيام الرئيس السابق حافظ الأسد (توفي عام 2000)، سواء أكانوا إسلاميين جهاديين (حاليين أو سابقين) أو ثوريين علمانيين. ويضاف إلى هذا الجانب من الشامتين، من يخالفونها في المنهج سواء أكانوا مع النظام أو ضدّه، وهم إما من الاتجاه السلفي أو عكسه.
من هي منيرة قبيسي؟
كثرت الكتابات عن الشيخة منيرة وحركتها النسائية الأكثر انتشاراً في سوريا، منذ خروجها إلى العلن، في عام 2005، وظهور مناهجها الإرشادية والتعليمية. وزاد الاهتمام بها أكثر مع بداية الثورة، ثم انحيازها علناً إلى النظام في مرحلة لاحقة. ومن أهم الدراسات التي تناولت قبيسي والقبيسيات، تلك التي أصدرها الباحث محمد خير موسى في استانبول عام 2020، وبدا فيها متفهّماً للجماعة أكثر منه ناقداً لها، بوصفه من طلاب العلم الشرعي في سوريا قبل خروجه منها. وجاءت دراسته في عنوان: “القبيسيات الجذور الفكرية والمواقف السلوكية“. وبنى الدراسة على حوارات مع أكثر من 25 منتمية حالية للجماعة أو كانت منها سابقاً، وهنّ من مراتب مختلفة فيها.
منيرة قبيسي فلسطينية سورية. والدها تاجر كان يتنقّل بين فلسطين وحوران. استقرّ في دمشق مع بدايات القرن الماضي. الخطوة غير المتوقعة من الأب، كان إرساله ابنته منيرة إلى مدرسة حكومية، عندما كانت العائلات المتدينة ترفض إرسال أبنائهن وبناتهن إلى المدارس الحكومية، ويفضّلون المدارس الدينية. دخلت منيرة كلية العلوم في جامعة دمشق، ودرّست بعد التخرّج في حي المهاجرين الراقي. فهي لم تكن ابتداء ذات تكوين شرعي تقليدي. تعرّفت إلى دعوة الشيخ أحمد كفتارو (توفي عام 2004) والذي سيصبح مفتياً للجمهورية عام 1964، فكانت من مريديه إلى أن نشب خلاف بينها وبعض المريدات الأخريات.
كان لها حضورها لحظة الصدام عندما تصدّرت وفاء ابنة الشيخ كفتارو العمل النسائي. فانفصلت منيرة قبيسي عن جماعة كفتارو من دون أن تنقطع حبال التعاون. فهل كان الانفصال عملاً مقصوداً لتخفيف العبء الأمني عن جماعة كفتارو التي كانت بصدد التوسع ثم ملء الفراغ الدعوي لاحقاً إثر الصدام العنيف بين النظام والإخوان المسلمين في السبعينيات والثمانينيات، أم كان نتيجة طبيعية قوة شخصية منيرة قبيسي والتي لا تحتمل التنافس على الموقع الأول، فكانت ردّة الفعل تكوين جماعة نسائية صرفة، هي أقرب ما تكون إلى حركة نسوية إسلامية معاصرة في التنظيم والحركة، وتقليدية في الجوهر والمظهر؟ لا يمكن حسم الأمر مع غياب دراسات أخرى، ومعلومات دقيقة، لا يملكها إلا من كانوا في دوائر القرار الدعوي آنذاك.
انتقلت قبيسي إلى “جماعة زيد” كما كان أتباع الشيخ عبد الكريم الرفاعي يُسمّون في الشارع الدمشقي، لاتخاذه من مسجد زيد بن ثابت منطلقاً له، فأصبح علماً على جماعة كنوع من الشيفرة الشعبية. لكنها كانت جماعة علمية تُعنى بالتدريس في المساجد. انتسبت منيرة إلى كلية الشريعة في دمشق، فكان من أبرز أساتذتها فيها، كبار رموز الإخوان المسلمين آنذاك: الدكتور مصطفى السباعي أول مراقب في جماعة الإخوان، أي المرشد (1945-1964) والدكتور محمد المبارك مساعد السباعي، كما كان عصام العطار مراقب الإخوان ما بين عامي 1964 و1973، خطيب مسجد الجامعة في حديقة كلية الشريعة.
ومن هذه المشارب الثلاثة، اتسمت منيرة قبيسي بالصوفية الحديثة التي يمثلها الشيخ أحمد كفتارو، وإن كان ينتمي عملياً إلى الطريقة النقشبندية، والاتجاه الصوفي العلمي مع الشيخ عبد الكريم الرفاعي (توفي عام 1973)، والاتجاه الأكاديمي الحركي الذي تمثله حركة الإخوان المسلمين.
الشيخة منيرة القبيسي المعرفات أتباعها من النساء بـ”القبيسيات”، وجّهت جهدها الرئيس في دعوتها النسائية نحو الشريحة العليا في المجتمع الحضري السوري
تصوف وانحياز إلى الأسد
اعتمدت القبيسيات على مظاهر التصوف وأدواته من حيث الارتباط الروحي الوثيق بين الطالبات والآنسات المشرفات كما مع الشيخة الحجة منيرة، كما حكمت حلقاتها على مستوياتها المختلفة بتعليم القرآن والحديث في درجات متتابعة وببرامج معمقة. وإلى ذلك، اتسمت الجماعة بالحلقات المرتبط بعضها ببعض، وبطرق ووسائل من التواصل السري، بعيداً عن أعين الرقباء قدر الإمكان، مع أن الجماعة لم تلتزم أيّ موقف سياسي مباشر، على مختلف المراحل المتعاقبة التي مرّت بها سوريا بين الأسد الأب والابن، وما بينهما مجزرة حماة الدموية عام 1982، ثم الأحداث الكبرى بدءاً من عام 2011، إلى أن انتقلت القبيسيات إلى الانحياز الظاهر إلى النظام في السنوات الأخيرة، لا سيما مع انحسار الثورة عسكرياً وفقدان مكاسبها الميدانية تدريجياً. فالموقع الجغرافي هو الذي حكم تماماً موقف الجماعات الدينية الدعوية من الثورة والنظام.
اغتيالات وإعالة
وقد انقسمت عملياً بحسب السيطرة الجغرافية لهذا الطرف أو ذاك، ولم تكن القبيسيات استثناء من القاعدة. وقد تعرّضت بعض القبيسيات إلى الاعتقال أو الاغتيال، ممن اتهمن ببمالأة الثورة، أو لمجرّد تقديم العون إلى المحتاجين في مناطق الصراع. فالعلاقة بين الجماعة والنظام شديدة التعقيد، كما هي علاقة بقية الجماعات الدعوية بالنظام في مناطقه.
إقرأ أيضاً: حفظ الدين من الأهواء والاستنزافات!
الثورة بتلاوينها لم تكن ناجحة في اجتذاب تلك الشريحة الواسعة لا سيما في المدن، كما كانت بخلافاتها فيما بينها، واتجاهاتها الفكرية الحادة، عاملاً طارداً للجماعات الدينية التقليدية التي كان عليها الاختيار المرير بين السيء والأسوأ، وفي توازن دقيق بين إعلان المواقف والحفاظ على الذات وعلى الجماعة، وعلى الدعوة.
هذا مع لحْظ أن ظروف النشأة الأولى لتلك الجماعات ومنها القبيسيات، في بدايات الهجمة البعثية العلمانية على المجتمع المحافظ في المدن السورية، قد اختلفت مع الحركة التصحيحية لحافظ الأسد عام 1970 وإزاحته التيار البعثي المتطرف. فمنذ ذلك الوقت، انعقد تفاهم غير مكتوب بين الأقلية الحاكمة (العلوية غالباً) والأكثرية السنية المحكومة (الجماعات الدعوية غير السياسية) على التعايش والتعاون في نقاط التقاطع والتشارك. لكن بعد ثورة 2011، زاد الضغط وتفاقم، فبقي خيط رفيع، وضاق الهامش: فإما مع النظام علناً، وإما الاندحار. وهذا هو أخطر تحدٍّ للقبيسيات بعد رحيل الحجة منيرة.