تروّج دمشق عبر محلّليها ومسؤوليها أنّ الرئيس رجب طيب إردوغان يستميت لمصالحة بشار الأسد، وأنّ المستقبل السياسي لإردوغان والدولة التركيّة مرتبطان بتنازل بشار الأسد وقبوله عقد لقاء مع الرئيس التركيّ.
ثمّة أمور في حاجة إلى إيضاح بعيداً عن المبالغات.
سياسياً، سيفرض الصلح مع أنقرة على النظام السوري الإعلان رسمياً عن الاعتراف باتفاق أضنة الذي عَلِم الشعب السوري بوجوده عن طريق الإعلام الخارجي. بناءً عليه، سيُضطرّ نظام بشّار الأسد إلى الإعلان رسمياً أمام “جمهوره” أنّ “القائد الخالد”، على العكس ممّا يروّج له، تخلّى رسمياً منذ سنوات طويلة عن لواء الإسكندرون لـ”المحتلّ التركيّ”.
التحرير السوريّ المستحيل
كيف ستبرّر دمشق ادّعاءات تحرير كلّ شبر من الأراضي السورية من الاحتلال التركي، ودمشق محكومة من قبل النظام نفسه الذي تخلّى عن تلك الأراضي بموجب اتفاق وقّعه من أجل وقف تهديد الاجتياح التركي لشمال سوريا في عام 1998 في ظلّ وضع جيوسياسي شبيه بالوضع القائم اليوم؟
في نهاية 2022، يبدو أنّ دمشق ونظامها دخلا أمتاراً إضافيّة في النفق الذي سيؤدّي إلى نهاية تبدو معروفة بالنسبة إليهما
في أحسن الحالات، سيفرض تجديد اتّفاق أضنة الحقّ المعطى للجيش التركي بدخول الأراضي السورية بعمق 30 إلى 35 كلم لملاحقة “إرهابيّي” حزب العمّال الكردستاني. بكلام آخر، سيتخلّى النظام رسمياً عن أراضٍ سورية جديدة من خلال صراعه المستميت للبقاء على كرسي الحكم في دمشق. يأتي ذلك في وقت يوجد الجيش التركي حالياً، عبر المعارضة السورية في الشمال السوري، في العمق المطلوب من تركيا.
سوريا بوّابة إردوغان إلى العالم
لا يختلف عاقلان على أنّ للرئيس التركي أطماعاً وأهدافاً سياسية شخصية تتمثّل في دخول اللعبة السياسية الدوليّة. لذلك نراه يتوسّط بين روسيا والغرب في أوكرانيا.
يبدو الحلّ السياسي للأزمة السوريّة المستمرّة منذ أحد عشر عاماً أحد تلك المداخل المهمّة التي يريد إردوغان ولوجها. ستفرض أنقرة على دمشق، من ضمن ما يُسمّى المصالحة، في حال حصولها، شروطها السياسية المتعلّقة بالملفّ السوري، وأهمّ تلك الشروط تطبيق القرار الدولي 2254 الصادر عن مجلس الأمن عام 2015، والذي يؤكّد أنّ الشعب السوري هو من يقرّر مستقبل البلاد، ويدعو إلى تشكيل حكومة انتقالية وإجراء انتخابات برعاية أمميّة، مطالباً بوقف أيّ هجمات ضدّ المدنيين بشكل فوري.
فخّ أميركيّ – روسيّ للأسد
يأتي ذلك في وقت تبدو أنقرة مصرّة على مشاركة المعارضة في الحكم عبر عملية سياسية تصل إلى التغيير الكامل في شكل النظام السوري وهيكله.
يعلم بشار الأسد وأفراد الحلقة الضيّقة المحيطة به أنّ القرار 2254 هو بمنزلة الفخّ الذي نُصِب له عبر تفاهم روسي – أميركي آنذاك. أجبرت موسكو بشار الأسد على القبول بالقرار. لكنّ بشار الأسد نجح في التهرّب منه من خلال ممارسة ألاعيب سياسية استوعب من خلالها بحنكة وزير خارجيّته الراحل وليد المعلّم المبعوثَين الدوليَّين ستافان دي ميستورا وغير بيدرسون من بعده، عبر إغراقهما بالتفاصيل، والانخراط في “سلال دي ميستورا”، ومتاهات اللجان الدستورية، ولقاءات لا تنتهي للمجتمع المدني.
على الرغم من كلّ تلك الألاعيب، نجد سوريا نفسها تغرق اليوم في الجوع والبرد والفقر، وفي أزمة اقتصادية لم تشهد مثيلاً لها. وتشكّل الأزمة الراهنة أكبر خطر وجودي على البلد في حدوده الراهنة منذ اتفاق سايكس – بيكو.
إضافة إلى ذلك، يعلم بشار الأسد والحلقة الضيّقة المحيطة به أنّ بوتين أصبح أضعف من أن يفرض أيّ قرار أو أيّ تغيير. الرئيس الروسي يحتاج اليوم، في ضوء ورطته الأوكرانيّة، إلى بشار الأسد كي يحافظ على ما حقّقه من خلال التموضع في شرق المتوسط.
تصرّ أنقرة على العودة الطوعية للّاجئين السوريّين إلى بلدهم. هذه العودة سمّتها أنقرة في شهر آب الماضي “مناطق تجريبية” في دمشق وحمص وحماه
الأسد يتهرّب من عودة السوريّين
بالعودة إلى المصالحة، تصرّ أنقرة على العودة الطوعية للّاجئين السوريّين إلى بلدهم. هذه العودة سمّتها أنقرة في شهر آب الماضي “مناطق تجريبية” في دمشق وحمص وحماه. وهذا ما يرفضه بشّار شخصيّاً من منطلق أنّ المجتمع السوري أصبح “متجانساً” بخروج هؤلاء السوريين من مناطق سيطرته. ثمّ كيف سيستطيع النظام السوري المفلس أن يقدّم أبسط الخدمات إلى العائدين من تركيا ولبنان، وهو حالياً عاجز تماماً عن دفع قسم من مستحقّات ذوي القتلى الشباب العلويين ومداواة جرحاهم وتوفير التدفئة والغذاء بأقلّ حدودهما لأهل بيئته الذين ماتوا وأُصيبوا دفاعاً عن النظام؟
العقبة الإيرانيّة والعقوبات الأميركيّة
هناك عنصر مهمّ آخر لا يمكن تجاهله. يتمثّل هذا العنصر في أنّ إيران، التي تسيطر على قرار بشار الأسد، لن تقبل أيّ مصالحة أو عملية سياسية تؤدّي إلى عودة السوريين إلى ديارهم التي هجروها. إنّ عودة ملايين السُّنّة إلى مناطقهم، كما تريد أنقرة، ستُفشل مشروع التغيير الديمغرافي الذي رأى النور عبر تهجير ثمانية ملايين سوري سنّيّ إلى خارج سوريا، وتهجير سبعة ملايين آخرين داخليّاً بما سهّل على إيران استكمال فتح طريق طهران – بيروت عبر العراق وسوريا.
إضافة إلى ذلك، تروّج جهات تابعة للنظام السوري أنّ تركيا ستقدّم بعض الخدمات إلى سوريا مثل الكهرباء وفتح المعابر التجارية لفكّ الحصار الدولي في حال المصالحة. هذه أوهام وحسب. الدليل أنّ كلّ المحاولات لدعم لبنان من أجل توفير ساعات إضافية من الكهرباء من خلال تمرير الغاز المصري عبر الأراضي السوريّة باءت بالفشل بسبب رفض الإدارة الأميركية أيّ احتمال لاستفادة دمشق من عبور الغاز. فكيف ستسمح لتركيا بأن تتعاون مع نظام بشار الأسد وتساعده على البقاء؟
تكبر مشاكل بشار الأسد كلّ ساعة، فهو أصبح اليوم “جنرال نورييغا”* القرن الواحد والعشرين بعدما صار متّهماً بتزعّم نظام مصنِّع للمخدّرات ومروّج وداعم لها في دول الإقليم والعالم. يؤكّد هذا التوجّه الأميركي التعديل الجديد لقانون العقوبات على سوريا (قانون قيصر). لقد أصبح “قانون قيصر” أشدّ إيلاماً لأيّ طرف يحاول تجاوز العقوبات الأميركية المفروضة على سوريا. فهل تخاطر تركيا أو أيّ دولة أخرى، غير روسيا وإيران وكوريا الشمالية، بتهديد اقتصادها بسبب تحايلها على العقوبات الأميركية في سبيل مصافحة وصورة تذكارية لإردوغان مع بشار الأسد. لا مفرّ من العودة بالذاكرة دائماً إلى أنّ الليرة التركية تلقّت ضربات مؤلمة عدّة في العامين الماضيين.
إقرأ أيضاً: هل يتمسّك إردوغان بلقاء الأسد؟
في نهاية 2022، يبدو أنّ دمشق ونظامها دخلا أمتاراً إضافيّة في النفق الذي سيؤدّي إلى نهاية تبدو معروفة بالنسبة إليهما. هل تشهد سنة 2023 مفاجآت سوريّة كبرى من النوع الذي أشار إليه ابن خال بشار الأسد وشريكه السابق رامي مخلوف الموجود في نوع من الإقامة الجبرية منذ أشهر عدّة؟
* سياسيّ بنما وجنرالها القويّ الذي وصفه خصومه بالحاكم الدكتاتور. تحالف مع الأميركيين وتجسّس لهم قبل أن ينقلبوا عليه ويطيحوا به عام 1989 ويقضي بقيّة حياته في السجون الأميركية.