تأثّر المشهد الجيوسياسي في عام 2022 بقرارين حاسمين صاحبَيْ أثر كبير سيساهم في صوغ السياسات العالمية خلال الأعوام الآتية:
– أوّلهما، قرار الغرب الانسحاب من أفغانستان في آب 2021 وختام التدخّل العسكري الغربي الذي استمرّ 20 سنة تحت عنوان مكافحة الإرهاب.
– ثانيهما، قرار الرئيس الروسي فلاديمير بوتين غزو أوكرانيا بعد ستّة أشهر من القرار الأوّل. ففي 24 شباط 2022، بدأت أضخم حرب في أوروبا منذ انتهاء الحرب العالمية الثانية عام 1945.
مفاجآت غير متوقّعة رافقت هذين الحدثين:
– قليل من الناس توقّعوا انهيار القوات الحكومية الأفغانية انهياراً كاملاً. وأقلّ منهم توقّعوا الإخلاء المأساوي من كابول.
– قليلون أيضاً توقّعوا صمود الأوكرانيين أمام القوات الروسية، وقتالها بقوّة وبراعة. وهذا وحّد الغرب وهدفه، وكشف سريعاً ضعف روسيا في كلّ مجال من مجالات القوّة، حسبما جاء في التقرير السنوي الصادر عن المعهد الدولي للدراسات الاستراتيجية The International Institute for Strategic Studies (IISS)، ومقرّه في لندن (أُسّس عام 1958)، تحت عنوان: “المسح الاستراتيجيّ لعام 2022 Strategic Survey 2022“.
في بداية الحرب، كان هناك تحفّظ غربي عسكري كبير ومخاوف من توفير ما يسمّى “الأسلحة الهجومية” لأوكرانيا، كما مخاوف من تصعيد روسي
دروس أفغانستان وأوكرانيا
أضاف التقرير أنّ الانسحاب الغربي من أفغانستان والغزو الروسيّ لأوكرانيا يقدّمان جملة من الدروس:
الدرس الأوّل: غطرسة القوّة التي دفعت الغرب إلى محاولة تشكيل دولة ومجتمع مختلفين تماماً في أفغانستان. والغطرسة نفسها دفعت روسيا أيضاً إلى محاولة إملاء هويّة على شعب آخر وإنكار شرعيّته.
الدرس الثاني: أهميّة الخيارات التي قد تكون مختلفة. فعلى الرغم من ظهور نخبة غير سعيدة في روسيا، وإن كانت طيِّعة، أطلق غزو بوتين لأوكرانيا العنان لقوى يمكن أن تُنهي نظامه. في مكان ليس بعيداً جدّاً عن موسكو (874 كلم) رفض الرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي مغادرة كييف في الأيام الأولى من الحرب، على الضدّ من نصيحة مساعديه والحكومات الغربية. هذا الموقف غرس في الدولة والجيش والبلد إرادة المقاومة، ومنع انتصار روسيا، ومنع تالياً التغيير الجوهري في النظام الأمني ??الأوروبي. إنّ قرار زيلينسكي البقاء في كييف وعدم الفرار غيّر مجرى التاريخ، وفق ما جاء في مقدّمة التقرير.
زلزال جيوسياسيّ
يعتبر التقرير أنّ الزلزال الجيوسياسي الذي نتج عن الغزو الروسي لأوكرانيا ستعقبه ارتدادات عدّة ستعزّز خطوط الصدع في السياسة العالمية. ففي نهاية عام 2021، كانت الولايات المتحدة مع معظم الدول الأوروبية ملتزمة بأن تكون منطقة المحيطين الهندي والهادئ هي المسرح الاستراتيجي الذي يجب أن يتحوّل إليه الاهتمام. كانت الأولوية الاستراتيجية لآسيا بمنزلة إجماع استراتيجي راسخ. لكنّ مغامرة بوتين الإمبريالية أعادت الغرب إلى أولوية الدفاع عن أمن منطقته الاستراتيجية الأصلية. فالنظام الأمني الأوروبي “مصلحة جوهرية” للغرب. ومن شأن تصدّعه أن يجعل أيّ التزامات أمنيّة خارجية أخرى غير قابلة للتطبيق. وعلى هذا، أصبح التحدّي الاستراتيجي للغرب مزدوجاً: هزيمة روسيا لاستعادة النظام الأمني الأوروبي، واستعادة ثقة بقيّة العالم بالأهداف والأخلاق الاستراتيجية الغربية (الأميركية تحديداً).
أمّا في شأن استجابة الغرب للغزو الروسي، فقد كانت المقاربات مختلفة ومتغيّرة حسب الأداء العسكري الأوكراني. في بداية الحرب، كان هناك تحفّظ غربي عسكري كبير ومخاوف من توفير ما يسمّى “الأسلحة الهجومية” لأوكرانيا، كما مخاوف من تصعيد روسي. وهي أضعفت قوّة الردّ الأوكراني الأوّليّ. لكن بمرور الوقت، عندما انكشفت الوحشية الشديدة للهجمات الروسية، واتّضح مدى الإرادة الوطنية غير العاديّة للأوكرانيين لصدّ الغزاة، تراجعت هذه المخاوف إلى حدّ ملموس. وبتسليم المعدّات العسكرية المتوافقة مع معايير الناتو، تمكّنت أوكرانيا من شنّ هجمات مضادّة. لكنّ الخوف المستمرّ من الصراع المباشر مع روسيا، منع الولايات المتحدة من تسليم مدفعية بعيدة المدى، ودبّابات من الدرجة الأولى، ومعدّات أخرى ربّما كانت ستغيّر ميزان القوى بشكل أكثر حسماً في مرحلة مبكرة. وبذلك أصبح الدعم العسكري المتزايد تدريجياً، الذي تبرّره النجاحات الأوكرانية الميدانية، هو الخيار المفضّل.
في حلف الناتو الموسّع، ومع هجوم روسيا على أوكرانيا، بات لدى دول الشمال والشرق حقّ “التصويت المرجِّح” لكيفية تحليل الناتو للمخاطر التي يتعرّض لها الأمن الأوروبي
التردّد.. والذاكرة “النوويّة”
أمّا لماذا كانت الاستجابة الغربية بهذا التردّد، فيفسّر التقرير الاستراتيجي ذلك بأنّ الغريزة السياسية قضت بمعاملة الغرب لروسيا – بوتين بالطريقة التي تعامل بها الأسلاف مع الاتحاد السوفيتي – ليونيد بريجنيف، أي: “افعلوا كلّ شيء لتجنّب صراع مباشر يمكن أن يوصل المتحاربين إلى أهوال المواجهة النووية الاستراتيجية”.
كان هذا الهدف حكيماً بشكل عامّ، حسب التقرير، لكنّه ربّما أوقف الخيارات العسكرية المعقولة التي كانت ستنهي الصراع بشكل أسرع بشروط تتّفق مع الحفاظ على النظام الأمنيّ الأوروبي. استُحضرت إحدى ذكريات الحرب الباردة بحكمة: “تجنُّب الحرب المباشرة بين الولايات المتحدة وروسيا، وإبقاء الناتو خارج الصراع”. في الوقت نفسه، نُسيت ذكرى أخرى للحرب الباردة بشكل غير استراتيجي: “ابتكرْ استجابات مرنة، واضمن هيمنة التصعيد”. لكنّ الدفاع ليس تصعيداً، والهجمات المضادّة ضرورية للنصر. وفي الحاصل، فإن التحكّم بالمستويات الدقيقة للمساعدة العسكرية الممنوحة لأوكرانيا، أعطى الأوكرانيين ما يكفي للدفاع والمثابرة، ولكن ليس بالقدر الكافي للصدّ والفوز.
تمتلك الولايات المتحدة، إلى جانب الحلفاء الغربيين الرئيسيين مثل فرنسا وألمانيا والمملكة المتحدة وغيرها، القوة العسكرية والاقتصادية الراجحة في القارّة. ولولا الدعم العسكري الذي قدّمته الولايات المتحدة، والعقوبات الاقتصادية التي ينسّقها الاتحاد الأوروبي بشكل خاص مع الولايات المتحدة، لَما كانت جهود أوكرانيا الحربية لتستمرّ. ببطء نما الوعي لكون ميزان القوى بين روسيا والغرب قد تغيّر بشكل جذري. بحلول الشهر السابع من الحرب، كانت أوكرانيا قادرة على شنّ هجمات مضادّة كبيرة جدّاً على الرغم من أنّ روسيا أرسلت الكثير من أفضل وحداتها وعتادها إلى الحرب، فيما امتنع الغرب عن إرسال أفضل دبّاباته أو طائراته أو معدّاته. يبدو أنّ الولايات المتحدة وكثيراً من دول الناتو “تتذكّر” روسيا بوصفها عملاقاً لا يمكن الوصول إليه. ومع ذلك فقد أصبحت، كما تصوّر أولئك الذين في الشمال والشرق، دولة فاشية جديدة ضعيفة، لكن عنيفة. ومع وضع هذه الذاكرة التي عفا عليها الزمن في الاعتبار، فقد استغرق الأمر وقتاً طويلاً بالنسبة إلى الولايات المتحدة ودول الناتو للنظر في أنّ أفضل طريقة لإنهاء الحرب هي التالية: “تغيير ميزان القوى بشكل جذري لمصلحة أوكرانيا”.
كان التأثير المهمّ للحرب الروسية على أوكرانيا هو انتقال مركز الثقل الجيوسياسي في أوروبا إلى الشرق والشمال
دول المواجهة الجديدة
أصبحت دول البلطيق، ذات التاريخ غير السعيد مع الاحتلال السوفيتي، والآن مع حدود الناتو الطويلة مع روسيا، من المدافعين المتحمّسين عن الدعم العسكري الغربي القويّ لأوكرانيا. كان لليتوانيا مخاوف خاصة، نظراً إلى حدودها الروسية الإضافية مع الجيب الروسي المعزول “كالينينغراد”. أبدت جمهورية لاتفيا بصراحة، مثل الدول الأخرى، خيبة أملها من مستوى الدعم المقدّم لأوكرانيا، وخاصة من ألمانيا، وانتقدت بشدّة الافتراضات المبكرة التي يتبنّاها بعضهم في أوروبا الغربية بأنّ إنهاء النزاع عن طريق التفاوض أمر مرغوب فيه، أو أنّه ينبغي تقديم مخرج إنقاذ لبوتين.
في كثير من النواحي، فازت قضيّة المؤيّدين لأوكرانيا. لم تقبل قمّة الناتو في مدريد في حزيران 2022 طلبَيْ فنلندا والسويد الانضمام إلى الحلف فحسب، بل وافقت أيضاً على مفهوم استراتيجي جديد أعطى أهميّة أكبر للدفاع عن دول خطّ المواجهة في الناتو. ساهمت هذه الدول بنسب عالية نسبياً من نصيب الفرد من الناتج المحلّي الإجمالي في الدفاع عن أوكرانيا، وبدأت دول أوروبية أخرى تتعهّد بإنفاق المزيد من الأموال أيضاً دعماً لكييف. أضحى تأثير هذه الدول أقوى في كلّ من مجالس الاتحاد الأوروبي وحلف شمال الأطلسي. لم يكن هذا فقط لأنّهم كانوا يتحدّثون أكثر، أو لأنّ دولتين منها تقدّمتا بطلب الانضمام إلى الناتو، أو لأنّ جمهورية التشيك تولّت رئاسة مجلس الاتحاد الأوروبي، أو لأنّ بولندا كانت تستقبل عدداً كبيراً من اللاجئين الأوكرانيين، وهي نقطة عبور رئيسية للأسلحة الغربية، ولأسلحتها هي نفسها، إلى كييف، وعرضت أن تكون جزءاً من ترتيبات “المشاركة النووية” الأميركية… بل كان ذلك لأنّ كلّ هذه الدول دافعت بقوّة عن قضيّتها، وهي أنّها “دول خطّ المواجهة” الجديدة.
لذا كان التأثير المهمّ للحرب الروسية على أوكرانيا هو انتقال مركز الثقل الجيوسياسي في أوروبا إلى الشرق والشمال. كان هؤلاء الأعضاء الحاليون والمستقبليون في الناتو يدعون جميعاً بصراحة إلى الدفاع عن أوكرانيا باعتبارها مسألة ذات مبادئ عالية وأمن عاجل. وبينما كانت بعض دول أوروبا الغربية تفضّل الدبلوماسية على الردع أو حجب الأسلحة لتجنّب التصعيد، كانت دول خطّ المواجهة الجديدة هذه تطالب بدعم عسكري قويّ لأوكرانيا، وتؤكّد أنّ الدفاع ليس تصعيداً. حتى مع الاتحاد الأوروبي الموسّع، ما يزال بإمكان فرنسا وألمانيا القول إنّ تعاونهما هو مفتاح التغذية لتطوّر الاتحاد الأوروبي. لكن في حلف الناتو الموسّع، ومع هجوم روسيا على أوكرانيا، بات لدى دول الشمال والشرق حقّ “التصويت المرجِّح” لكيفية تحليل الناتو للمخاطر التي يتعرّض لها الأمن الأوروبي، واتّخاذ قرارات بشأن الأدوات الرئيسية للدفاع والردع.
إقرأ أيضاً: الصين تتراجع.. الهند تتقدّم.. أوروبا أقوى
من الناحية الأمنيّة، قد يكون الأمر قريباً من أنّ قادة أوروبا الغربية الذين يشرحون الأساس المنطقي لهياكل الدفاع الأوروبية سيحتاجون إلى التحدّث عن “مركزية الشمال” تماماً كما يذعنون دبلوماسياً لـ”مركزية الآسيان ASEAN” (وهي المؤلّفة من بروناي، وكمبوديا، وإندونيسيا، ولاوس، وماليزيا، وميانمار، والفليبين، وسنغافورة، وتايلندا، وفيتنام)، عند النظر في بنية أمن آسيا الإقليمي.