2022: عام تفكُّك العالم

مدة القراءة 6 د

حملت السنوات الماضية مصائب وكوارث سَهُل حصر أضرارها وعرض جردة تداعياتها في آخر كلّ عام. لكن عام 2022 سيدخل التاريخ بصفته الحقبة التي ما زالت حتى في أيامها الأخيرة تنذر بانفجار دولي قد يرقى إلى حدود الحرب النووية. ولئن تتبرّأ العواصم من إعادة تكرار خطيئة هيروشيما وناغازاكي في عام 1945، فإنّ هذا العام شهد منذ بداياته أحداثاً فضحت من دون لبس تصدّع النظام الدولي الراهن وأنذرت بسقوطه نحو صدام عدميّ محتمل.

 

المفاجأة الأوكرانيّة

عام 2022 هو عام روسيا في طموحاتها وإخفاقاتها وفي ما ينتظرها لاحقاً من مآلات حربها الأوكرانية في أوروبا. وليس من المبالغة وصفُ هذه الحرب بالشاملة. فهي حرب شنّتها روسيا، ففاجأت زعيمها فلاديمير بوتين في تعثّر ميادينها، وفاجأت خصومه في المنظومة الغربية بقدرة أوكرانيا على صدّ روسيا وإرباكها واستحقاقها الدعم الغربي بلا حدود.

كشف العام عن اختلال في خرائط وموازين القوى، وعن الحاجة إلى تموضع جديد يعيد تصويب فوضى الخرائط والموازين. لم يعد مقسّماً ببلادة بين غرب وشرق، ولم تعد الاصطفافات بليدة تقليدية. بدت دول البريكس مثلاً أكثر تميّزاً وحياداً. وراحت بلدان الشرق الأوسط، على منوال دول العالم الثالث القديم، تسعى بصعوبة إلى انتهاج حياد معقّد يُعبَّر عنه في داخل مجلس الأمن وداخل الجمعية العامّة للأمم المتحدة. قليلون هم من صفّقوا لحرب روسيا التي شُنّت في 24 شباط، وكثيرون من رفعوا في هذه المناسبة “بطاقة صفراء” للولايات المتحدة، فراحت واشنطن تتوسّل تأييداً كانت تخاله آليّاً ومملّاً.

تجاوزت الصين في هذا العالم مرحلة الزعامة المحتملة. باتت رقماً صعباً وندّاً حقيقياً للولايات المتحدة

الصين تكرّس عظمتها

تجاوزت الصين في هذا العالم مرحلة الزعامة المحتملة. باتت رقماً صعباً وندّاً حقيقياً للولايات المتحدة. ومنح مؤتمر الحزب الشيوعي الصيني في تشرين الأول زعيمها تشي جين بينغ مناعة وقوّة مطلقتين تبشّران بأن يصبح زعيماً فوق العادة، على منوال ما كانه ماو تسي تونغ.

لعبت بكين ببراعة دور الكبار: لم تؤيّد ورشة بوتين في أوكرانيا، ولم تعترف بما يغرفه من أقاليم هناك. لكنّها حمّلت في الوقت عينه واشنطن والغرب والحلف الأطلسي مسؤوليّة ذلك “الاستفزاز” الذي قاد إلى تلك الحرب.

لكنّ الصين انتقلت من مرحلة القوّة الهائلة الناعمة إلى تلك المخيفة الخشنة التي تُظهر مخالبها في مواجهة تايوان، حين غامرت زعيمة الديمقراطيين في مجلس النواب الأميركي نانسي بيلوسي بزيارتها الجزيرة في آب، وأدلت بدلو تخطّى الخطوط الحمر هناك.

 

الطاقة والذعر

في عام 2022 اصطدمت الولايات المتحدة مع منتجي النفط التقليديين. لم تصل الأزمة إلى حدود تلك التي اندلعت إثر قرار حظر النفط بعد حرب تشرين 1973، لكنّ واشنطن اكتشفت مناعة منظمة “أوبك +” ورشاقتها في مغادرة السياسة وإدارتها الظهر للولايات المتحدة، وفي اتّخاذها قرارات التحكّم بمستويات الإنتاج وفق قواعد السوق واستقراره.

لكنّ ذلك الصدام، الذي نهل أسبابه من ضرورات فرضها استحقاق الانتخابات النصفية الأميركية في تشرين الثاني، يعود في أسسه إلى الانقلاب التاريخي في مسارات خطوط الطاقة وموادّها خلال هذا العام.

ذهب الأوروبيون بعيداً في اعتماد علاج جذريّ موجع لـ “الشفاء” من النفط والغاز المستوردَيْن من روسيا منذ أن كانت اتّحاداً سوفييتيّاً. عاد الفحم من جديد إلى ألمانيا لتوليد الكهرباء، وشغّلت فرنسا كامل مفاعلاتها النووية الصالحة للعمل. راجت تجارة الغاز المسيّل المستورد من أميركا وقطر البعيدتين، وازدهر غاز الجزائر الذي تخطب أوروبا ودّ أصحابه، فتتنافس على استيراده إيطاليا وفرنسا وزبائن آخرون.

وفيما كانت العواصم تبشّر ببرمجة الاستغناء عن الطاقة الأحفورية واعتماد الطاقة النظيفة بديلاً، عادت منطقة الخليج مركزاً أوّل وأصيلاً للطاقة في العالم، ورأت إيران في هذا الانقلاب ما يتيح لها تدلّلاً.

العام الذي نودّع لا يشي بانضباط ولا يفصح عن قدرة على توقّع الآتي والتحكّم بمساراته

بريطانيا المأزومة

في عام 2022 غابت الملكة إليزابيت الثانية عن بريطانيا. ودّعها العالم في لندن وكأنّه يودّع قرناً من تاريخه وعقوداً من تحوّلاته. غادرت الملكة بلداً تعجّ فيه الأزمات، ويحكمه اللااستقرار منذ الخروج من الاتحاد الأوروبي، وراح يتساقط زعماؤه عن الحكم واحداً بعد آخر.

غابت الملكة ولم تشهد وصول ريشي سوناك، أوّل سياسي غير أبيض وغير مسيحي، إلى زعامة حزب المحافظين وإلى قيادة حكومة صاحب الجلالة الملك تشارلز الثاني.

 

عالم عدم اليقين

العام الذي نودّع لا يشي بانضباط ولا يفصح عن قدرة على توقّع الآتي والتحكّم بمساراته. طرد السريلانكيّون رئيس بلادهم. وسُحبت الثقة من زعامة عمران خان في باكستان. أطاح العسكر بنظام مالي، وأنهى الرئيس الفرنسي عملية برخان في منطقة الساحل في إفريقيا. هكذا ترحل فرنسا وترفرف بيارق مجموعة فاغنر الروسيّة وتُرفع في باماكو صور بوتين. 

يجتاح عدم اليقين مناطق أخرى في هذا العالم: فازت زعيمة اليمين المتطرّف جورجيا ميلوني برئاسة الحكومة في إيطاليا، بعد أشهر على هزيمة مارين لوبن زعيمة ذلك اليمين في فرنسا أمام ماكرون العائد من جديد إلى الإليزيه. اليسار في الجهة المقابلة من العالم هو الذي فاز: استعاد لولا دا سيلفا موقعه زعيماً في البرازيل مطيحاً بصعوبة باليمينيّ المتطرّف جايبر بولسونارو.

 

أميركا والصين

إذا كانت العواصم كلّها ما زالت ترى في واشنطن مؤشّراً إلى الوجهات التي يذهب نحوها العالم، فإنّ ذلك اليمين الشعبوي في العالم أجمع أُصيب بصفعة حين جاءت الانتخابات النصفية في الولايات المتحدة بنتائج تشبه النصر لجو بايدن وتشبه الهزيمة لدونالد ترامب. بدا أنّ أميركا ما زالت منقسمة، لكنّها أقلّ شغفاً بالرجل الذي جاء من عالم العقارات فاستولى على الجمهوريين وعلى البيت الأبيض، وقد لا تمنحه موعداً آخر في انتخابات عام 2024.

إقرأ أيضاً: العرب 2022: سقوط مدن المشرق… ونهوض لآلىء الخليج

ما زال العالم يدور حتى الثانية الأخيرة من هذا العام حول الحدث الأوكراني. وما زالت غرف الكبار تعوّل في العام المقبل على ما تنتهي إليه تلك الحرب: موسكو تسعى إلى خروج مشرِّف. كييف تعوّل على نصر كاسح. واشنطن تحرص على تأكيد شعار رئيسها “America is back”. وبكين التي ينقل إعلام العالم ظهور تمرّد مجتمعي على إجراءاتها المستمرّة بتشدّد لمكافحة الجائحة، ترى في أيّ نهاية لحرب أوكرانيا قطافاً في حقولها.

 

لمتابعة الكاتب على تويتر: mohamadkawas@

*كاتب لبناني مقيم في لندن

مواضيع ذات صلة

شينكر لـ”أساس”: الحزب قد “يَقتُل”.. عون هو الرئيس وبايدن أساء للسعودية

حاضر دائماً في التفاصيل اللبنانية. داخل الادارة الاميركية أو خارجها يبقى فاعلاً ومؤثراً إنّه ديفيد شينكر المُساعد السّابق لوزير الخارجيّة الأميركيّ لشؤون الشّرق الأدنى. يعرفُ…

عام المرأة الإيرانية… ثورة نساء إيران: من الخميني إلى أدونيس والأسد

في نهاية عام 2022 يكون قد مرّ أكثر من مئة يوم على ثورة “المرأة، الحياة، الحرّية” المستمرّة في إيران. صحف، مجلّات، ومواقع صحافية إلكترونية عالمية…

فرنسا 2022: الفشل الكبير في “لبنان الكبير”

الفشل الفرنسي الكبير هو في “لبنان الكبير”. وهو فشل ملازم للسياسات الفرنسيّة منذ سنوات. فهي لا تحمل العصا، ولا تملك الجزرة. لنبدأ من الآخر. 1-…

رحلة الدولار مستمرّة صعوداً: 75 ألفاً نهاية 2023؟

تُظهر العودة إلى أرقام سعر الصرف في السنوات الثلاث المنصرمة أنّ الدولار كان يقفز كلّ سنة بين 17 و20 ألفاً، وهذا يعني أنّ وصول الدولار…