الدرس الذي قدّمه الرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي للّبنانيين بسيط. في اليوم الـ300 للحرب التي شنّها فلاديمير بوتين على بلاده، وصل الرئيس الأوكراني الشابّ إلى العاصمة واشنطن، بعدما زار الخطوط الأمامية للمعارك الطاحنة في إقليم خاركيف وتفقّد البنية التحتية المدمّرة للمدينة. في واشنطن التقى الرئيس جو بايدن شاكراً له دعمه وطالباً المزيد. ثمّ ألقى خطاباً في الكونغرس الأميركي سيدخل تاريخ الخطابات الأساسية على ضفّتي الأطلسي في القرن الواحد والعشرين.
ليس مهمّاً، الآن، كيف وصل زيلينسكي إلى واشنطن في أوّل زيارة خارجية له منذ بداية الهجوم الروسي في 24 شباط 2022، وأيّ قطار أقلّه إلى بولندا، وأيّة طائرة حملته منها إلى العاصمة الأميركية، وما هي وسائل الحماية لتي توافرت لرحلته المثيرة. هذه تفاصيل تعني عالم الجواسيس ومنتجي الدراما. ما يعنينا أنّه وصل أوّلاً بصموده وإصراره على قيادة شعبه في ظروف حالكة لا تتوافر فيها شروط الصمود والإصرار.
المسألة أعقد بكثير من كلام الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون العصبيّ عن “ضرورة تغيير وإزاحة القيادات السياسية في لبنان الذين يعرقلون الإصلاحات”
في بدايات الحرب، عرضت عليه واشنطن إجلاءه وعائلته. كانت القناعة الأميركية والغربية لا تبعد كثيراً عن القناعة الروسية بأنّ الحرب ستكون نزهة سريعة إلى قلب كييف، وينتهي الأمر. عاند الرئيس الشابّ وردّ بأنّ ما ينتظره هو الدعم العسكري والسياسي لا الإجلاء. راح يُلقي الخطابات التعبويّة والاستنهاضية في كلّ مناسبة أمميّة، حاصداً المزيد من الإعجاب والقناعة به. كانت ثقته بنفسه سبباً لاستعادة أوروبا ثقتها بنفسها، وكذلك أميركا وحلف الناتو. أراد بوتين تغيير أوروبا فغيّرها زيلينسكي.
الدرس البسيط فحواه أنّ العالم يحترمك حين تقرّر احترام نفسك أوّلاً. ينتبهون لك إن أحسنت تقديم صورة مُقنعة عن قضيّتك وعن إيمانك بها. لن يقف العالم إلى جانبنا إن لم نقف، نحن اللبنانيين، مع أنفسنا. ولن يُلقي العالم بالاً لتعريف قضيّتنا وثوابتها ما لم نحسن نحن أوّلاً تعريف العالم بالقضية اللبنانية وثوابتها، وما هو ممكن وما يقع في خانة الخطوط الحمر.
ماذا أعطتنا التسويات؟
عالم ما بعد كورونا يحبّ التسويات أكثر. فإذا كان سقف اللبنانيين هو تسويات من النوع الجاري الإعداد له، فالعالم سينحدر بسقف التسويات أكثر. عالم ما بعد الأزمات الاقتصادية القائمة والمقبلة لا شهيّة عنده للتموضع في الصراعات ما لم تفرض الصراعات نفسها عليه. قالها زيلينسكي بوضوح: ما تقدّمونه لنا ليس مساعدات بل استثمار في أمنكم.
لقد جعل الرجل من حماية كييف شرطاً أساسياً لحماية باريس وبرلين.. وواشنطن وتايوان..
هل بوسعنا أن نقول للعالم إنّ تحرير بيروت مقدّمة شرطيّة لتحرير بغداد وصنعاء وربّما دمشق..
نحن كييف المنطقة بشكل أو بآخر..
بيد أنّ المحزن أنّنا كييف بدمارها من دون كرامتها وعنفوانها. تتحدّث التقارير عن أنّ مجموع خسائر أوكرانيا بسبب الحرب قد تصل إلى تريليون دولار. التفاصيل تغطّي الدمار اللاحق بالبنية التحتية، وضمور الاقتصاد، وكلفة تخلّف التنمية البشرية، والنزوح، والإفقار الذي سيطال 21% من الأوكرانيين بعدما كانت فئة الفقراء لا تتجاوز 2% قبل الحرب. خسائر أوكرانيا تعادل 5 مرّات الناتج المحلّي عام 2021.
لنقارن ذلك بما حلّ بلبنان؟ بحسب البنك الدولي فإنّ خسائر لبنان تعادل 3 مرّات الناتج المحلّي للبلاد. وفي عام 2021 صنّف تقرير للبنك الأزمة الاقتصادية والمالية الشديدة التي تعيشها البلاد أنّها من بين “أسوأ الأزمات التي يشهدها العالم منذ أكثر من 150 عاماً”.
لِمَن يريدون التعوّذ بالله من مصير أوكرانيا ويتّهمون رئيسها بالجنون ويدعون ليل نهار إلى التعقّل والتسوية، أن يسألوا:
هل حمت التسويات لبنان؟ هل منعت انفجار المرفأ؟ هل أهّلتنا لأن تكون لنا أرزاق وحيوات عاديّة، بلا سياسة، بلا منازعات، وبلا قضايا كبرى، “وتكبير راس”!!.
تعرفون الجواب. يعرفه أطفالكم البلا حليب ودواء. ويعرفه مرضاكم البلا مستشفيات. وتعرفه أمّهاتكم البلا حيلة إلا الدعاء. وآباؤكم الذين يلفّون الانكسار بانكسار والخيبة بخيبة.
التسويات، غير الشجاعة، وغير الخلّاقة، وغير الأخلاقية، أفقدتنا الكرامة والخبز معاً.
عزّزت الكارثة اللبنانية الانطباعات عن اللبنانيين، الذين انحازت أغلبيتهم إلى إعادة إنتاج قوى السلطة إيّاها في الانتخابات الأخيرة، في حين ينخرط “التغييريون” في أنماط السلوك السياسي التقليدي إيّاها من دون أيّ ذرّة ابتكار خارج المعتاد
رثاثة كلام ماكرون
ليست هذه دعوةً إلى الحرب ولا استدعاءً لجنون السلاح والاقتتال الأهليّ. ولا بيروت بالنسبة إلى محيطها هي ما تمثّله كييف لفضائها الاستراتيجي الأوروبي والأبعد. أو على الأقلّ، لم تعد بيروت كذلك.
ربّما وجب علينا البحث داخل أنفسنا عن معنى لوجودنا وبلادنا قبل أن نتنطّح للبس أدوار لا تتوافر لنا معطياتها وعناصرها. ربّما وجب علينا أن نعيد اكتشاف معنى أن نكون لبنانيين ومعنى أن يكون لبنان قبل أن نطمح إلى أدوار تتطلّب دعم الآخرين ووقوفهم إلى جانبنا باعتبار أنّ حربنا حربهم وقضيّتنا قضيّتهم.
وعسانا نبدأ بالإقرار، بعد انتخابات نيابية، بهتت نتائجها التغييرية سريعاً، وفي ظلّ فراغ رئاسي سيدوم ويدوم ويدوم كما يقول إعلان تلفزيوني شهير، عسانا نبدأ بالإقرار بحجم تخلّف قيمنا السياسية، أكانت حقوق المسيحيين أم كرامة الشيعة، أم حضور السُّنّة أم أوهام الدروز، والإقرار بخراب مؤسّساتنا الدستورية، برلماناً أوّلاً ثمّ حكومةً ورئاسة جمهورية. وبموازاة ذلك علّنا نفتح بكلّ جدّية وبأعلى درجات الطوارئ، معنى العقد الاجتماعي الذي نعيش في ظلّه في نظام أشبه بنظام الفصل العنصري، الذي يفصل بين أهل السلاح وأهل اللاسلاح.
المسألة أعقد بكثير من كلام الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون العصبيّ عن “ضرورة تغيير وإزاحة القيادات السياسية في لبنان الذين يعرقلون الإصلاحات”، وهو كلام تزداد رثاثته بالنظر إلى المديح غير المبرَّر الذي كاله الرئيس الفرنسي لرئيس حكومة تصريف الأعمال نجيب ميقاتي داعياً إلى “مساعدة رئيس الحكومة الذي يحاول على الرغم من كلّ شيء أن يبذل أقصى ما يمكنه”. فميقاتي هو جزء لا يتجزّأ من النظام السياسي الذي أوصل لبنان إلى ما وصل إليه، بل هو أكثر الأجزاء تعبيراً عن هذا النظام، وقدراته الخرافية على تمويه الهيمنة وجعلها تظهر بمظهر التسوية والحلّ الوسط.
كما أنّ الأزمة اللبنانية ليست أزمة معرفية تتعلّق بجهل النخبة الحاكمة بقواعد الإصلاح وآليّاته، كما أوحى الرئيس الفرنسي، بل أزمة بلاد محتلّة، تعرّضت لغزو متدرّج أكثر وحشيّة من الغزو الروسي لأوكرانيا.. ما حلّ بلبنان واللبنانيين بالتقسيط يوازي، إذا لم يكن أسوأ، ما حلّ بأوكرانيا والأوكرانيين دفعة واحدة.
أوكرانيا… الدرس الكبير
حطّمت أزمة أوكرانيا الكثير من الأحكام المسبقة عن هذا البلد وأهله. ما عاد أحد يفكّر في أنّ أوكرانيا بلد ميؤوس منه بسبب انقسامه بين مجموعات لغوية روسية وأوكرانية غير قابلة للتعايش بعضها مع البعض الآخر. وما عاد يُذكَر في التعليقات الصحافية أيّ كلام عن أنّ أوكرانيا معضلة في النسيج الأوروبي لكونها معقلاً للحنين إلى النازية وحسب. وغابت التقارير الجدّية عن أزمة الفساد في أوكرانيا، لصالح النظر إليها كدولة تحكمها حكومة ذات أهداف وطنية، تبدو مؤهّلة لإعادة إعمار البلاد والاقتصاد بعد الحرب. والأهمّ تحوُّل زيلينسكي من كوميدي ورئيس صدفة إلى أحد القيادات التاريخية في قلب أوروبا.
بالمقابل عزّزت الكارثة اللبنانية الانطباعات عن اللبنانيين، الذين انحازت أغلبيتهم إلى إعادة إنتاج قوى السلطة إيّاها في الانتخابات الأخيرة، في حين ينخرط “التغييريون” في أنماط السلوك السياسي التقليدي إيّاها من دون أيّ ذرّة ابتكار خارج المعتاد.
إقرأ أيضاً: إيران المضطربة.. والهدوء السعوديّ المستفِزّ
لقد أثبتت الانتخابات الأخيرة أنّ النظام السياسي اللبناني يقوم على هيكليّات تنظيمية مقاوِمة لنتائج الانتخابات، بحيث إنّ نظام الهيمنة المسلّح يظلّ قادراً على إخضاع الإرادة السياسية للمعارضين له، بصرف النظر عن توزيع المقاعد ونسب التمثيل داخل المؤسّسات. لقد تحوّل نظام الهيمنة المسلّح ليصير هو النظام العامّ في لبنان، بحيث إنّ آليّاته الأساسية للحكم، كالتوافق والحوار والتسوية، تسيطر وتحكم عموم النشاط السياسي في البلاد، ويجبر الخصوم على اللعب وفقاً لشروطه، أكان ذلك يلتقي مع منطوق الدستور أم يخالفه، أو كانت تتوافر لنظام الهيمنة المسلّح أكثرية برلمانية أم لا تتوافر.
لبنان ينتظر زيلينسكي ما يضع في مقدّمة المشروع الوطني اللبناني تحرير البلاد من نظام الهيمنة المسلّح وعنوانه الأوّل حزب الله، قبل الشروع في الحديث عن أيّ عنوان آخر. وزيلينسكي ليس فرداً بالضرورة بل نواة صلبة سياسية تجرؤ على تعريف دقيق للأزمة وتجعل من هذا التعريف معياراً حاسماً لتقويم الكفاءة الوطنية لكلّ الأطراف السياسية، بلا مجاملة أو التفات للأرصدة الوطنية السابقة لهذا الفريق أو ذاك.
لمتابعة الكاتب على تويتر: NadimKoteich@