ليست حادثة مقتل الطفلة جنى زكارنة بخمس طلقات في الرأس في مخيّم جنين في الضفة الغربية المحتلّة على أيدي قوات الاحتلال الإسرائيلية أثناء اقتحامها المخيم سوى غيض من فيض وحشيّة الاحتلال الإسرائيلي وعنصريّته، واستخفافه بالدم الفلسطيني. وحتى واشنطن، التي تُعتبر أكبر مورّد للذخيرة إلى الجيش الإسرائيلي، أصبحت قلقة ممّا تسمّيه “إصبع رشيقة على الزناد”.
داهمت القوّة الإسرائيلية التي تضمّ عناصر من “المستعربين” مخيّم جنين للّاجئين بغية اعتقال من تعتبرهم مطلوبين، زاعمة أنّها تعرّضت لإطلاق نار، وأنّ أحد القنّاصة لاحظ أشخاصاً فوق سطح أحد المنازل، أحدهم مسلّح أطلق النيران نحو القوّات الإسرائيلية. وبحسب الرواية الإسرائيلية، أصابت رصاصة إسرائيلية من مسافة 100 متر الطفلة جنى عن طريق الخطأ، بعدما ظنّ مطلق الرصاص أنّ الحديث يجري عن مسلّح.
رواية واحدة لقتلٍ لا يتوقّف
لكنّ الرواية التي ساقها الجيش الإسرائيلي، من وجهة نظر مراقبين، هي رواية معدّة مسبقاً، يمكن الاستعانة بها في جميع حالات القتل التي تطال مدنيين وأطفالاً فلسطينيين خلال مداهمات الجيش في الضفّة، وهو الأمر الذي تعزّزه وقائع سابقة مماثلة.
تشير المعطيات المتوافرة إلى أنّ عدد الشهداء برصاص جيش الاحتلال الإسرائيلي وصل منذ مطلع العام الجاري حتى اليوم إلى نحو 221 شهيداً
ونفى شهود عيان فلسطينيون بشدّة الرواية الإسرائيلية، وأكّدوا لوسائل الإعلام أنّ المنزل لم يشهد وجود أيّ مسلّحين على سطحه، ولم يُطلَق الرصاص باتجاه قوات الاحتلال التي كانت متمركزة أمامه.
وذكر الصحافي الإسرائيلي، جاك خوري، عبر تويتر، أنّ الطفلة الفلسطينية جنى زكارنة قُتلت برصاص الجيش الإسرائيلي عندما صعدت إلى سطح بيتها بحثاً عن هرّتها “لولو” لتدخلها إلى المنزل فأطلق عليها قنّاص إسرائيلي النار وسقطت شهيدة، بحسب ما نقله عن أسرتها. ونشر خوري صورة لقطّة الشهيدة مرفقةً بصورة الجنازة، وقال إنّ القطّة تبحث عن جانا زكارنة.
وأفادت منظمات حقوقية بأنّ قوات الاحتلال الإسرائيلية لا تطلق النار في الضفة الغربية ضمن ظروف خاصة، بل أصبح الإطلاق “إجراء روتينياً” حتى من دون أن يشكّل المستهدَفون خطراً على تلك القوات.
وقالت منظّمة “بتسيلم” الإسرائيلية إنّ “إطلاق النيران الفتّاكة هو أحد أوجُه سياسة إطلاق النار التي تطبّقها قوّات الأمن الإسرائيلية في الضفة الغربيّة، وبات إجراءً شبه روتيني، فلا يتعلّق بظروف خاصة فقط، مثل خطر محقَّق وداهم على الحياة ولا سبيل لتفاديه بوسائل أخرى”.
الرصاص الإسرائيليّ يحصد مئات الفلسطينيّين
تشير المعطيات المتوافرة إلى أنّ عدد الشهداء برصاص جيش الاحتلال الإسرائيلي وصل منذ مطلع العام الجاري حتى اليوم إلى نحو 221 شهيداً، بينهم 52 في قطاع غزّة و165 في الضفّة الغربية و4 من الداخل الفلسطيني. وتؤكّد مصادر رسمية فلسطينية أنّ العام الجاري سجّل أعلى حصيلة من الشهداء منذ نهاية الانتفاضة الثانية.
يرى مراقبون أنّ الجيش الإسرائيلي ينفّذ يوميّاً في جنين أعمال تصفية لنشطاء مسلّحين، بعضهم من القوميين والعلمانيين، وهم في الأغلب غير منظّمين
وكشفت هيئة البثّ الإسرائيلي “كان 11” أنّه منذ عام 2017 لم يتمّ تقديم سوى لائحة اتّهام واحدة ضدّ جنود جيش الاحتلال الإسرائيلي الذين استهدفوا فلسطينيين بالرصاص الحيّ في الضفة الغربية خلال السنوات الستّ الماضية، مشيرة إلى أنّ هذه الفترة شهدت استشهاد 354 فلسطينياً برصاص الاحتلال.
“الصهيونيّة الدينيّة” تستبيح الدم الفلسطينيّ
يأتي ذلك في إطار المزاعم الصادرة عن قيادات في اليمين الإسرائيلي المتطرّف من تيار “الصهوينية الدينية”، زعموا خلال الفترة الماضية أنّ القيادات العسكرية والسياسية لا تقدّم الدعم لعناصر جيش الاحتلال من مرتكبي الجرائم ضد الفلسطينيين. لذلك يسعى وزير “الأمن القومي” الإسرائيلي المقبل، إيتمار بن غفير، إلى إحداث تغيير في تعليمات إطلاق النار الممنوحة لقوات الاحتلال في مواجهة الفلسطينيين، بحيث تصبح أكثر تساهلاً. ويعتزم بن غفير منح قوات الاحتلال الإذن بإطلاق النار على راشقي الحجارة والزجاجات الحارقة والردّ عليهم فوراً بـ”الذخيرة الحيّة”.
يرى مراقبون أنّ الجيش الإسرائيلي ينفّذ يوميّاً في جنين أعمال تصفية لنشطاء مسلّحين، بعضهم من القوميين والعلمانيين، وهم في الأغلب غير منظّمين، ولا ينتمون إلى الفصائل الفلسطينية، لكن يرون أنفسهم أبطالاً شعبيّين، ويمجّدون الثورة على الاحتلال الإسرائيلي لمدنهم ومخيّماتهم.
من جهته، حذّر الكاتب الإسرائيلي جاك خوري من أنّه إذا استمرّت الاقتحامات والاستفزازات الإسرائيلية لمخيم جنين، فلن يكون بعيداً اليوم الذي تصبح فيه جنين رمز المقاومة الفلسطينية للاحتلال الإسرائيلي، مثلما كانت ماريوبول رمز المقاومة الأوكرانية للاحتلال الروسي. ودعا إلى الخروج من جنين، ليس فقط بسبب “الثمن الأخلاقي”، بل أيضاً بسبب الكلفة التي تتحمّلها إسرائيل، وما تسبّبه الاقتحامات والتصفيات من تصديع للسيطرة الأمنيّة للسلطة الفلسطينية.
الخارجيّة الأميركيّة على قلقٍ
عكس بيان الخارجية الأميركية، الذي أعلنه الناطق باسم الوزارة نيد برايس، وطالب إسرائيل بتحمّل مسؤوليّاتها في “محاسبة المجرم” الذي قتل الطفلة جنى زكارنة، طبيعة العلاقة الفاترة الراهنة بين واشنطن وتل أبيب، على خلفيّة تشكيل بنيامين نتانياهو لحكومة يمينيّة مُتشدّدة، تكاد أن تكون أكثر الحكومات تشدّداً في تاريخ إسرائيل. وأعرب البيان عن خشية من “صبّ” هذه الحكومة مزيداً من الوقود على الوضع المتوتّر والهشّ في الضفّة الغربية.
من جهتها، علّقت المصادر الإسرائيلية على كلام نيد برايس بالقول إنّ “هذا ردّ فعل أميركي غير مألوف على موت فلسطيني في الضفّة، وهو ليس مواطناً أميركياً، كما حدث عند مقتل الإعلامية شيرين أبو عاقلة التي كانت تحمل الجنسية الأميركية”.
في هذا السياق، قال رئيس “معهد واشنطن للبحوث السياسية” في الشرق الأوسط في العاصمة الأميركية روبرت ستلوف في ندوة مغلقة شارك فيها الكاتب الإسرائيلي بن درور يميني: “لا يمكنكم أن تشتكوا من قرار الجمعية العمومية للأمم المتحدة طلب فتوى قانونية من محكمة العدل الدولية بشأن السيطرة الإسرائيلية على الضفة الغربية وقطاع غزة، وقبيل المناقشات تنفّذون خطوات تدلّ على تخليد الاحتلال، ومنها على سبيل المثال شرعنة البؤر الاستيطانية”.
إقرأ أيضاً: الفلسطينيّون والمسجد الأقصى: كابوس بن غفير
البؤر الاستيطانيّة باقية وتتمدّد
في موازاة شرعنة البؤر الاستيطانية، تواصل قوات الاحتلال مصادرة الأراضي الفلسطينية، وهذه المرّة يتعلّق الأمر بقرار سلطات الاحتلال إخلاء قرية خان الأحمر، الواقعة شرقي القدس المحتلّة، بعدما أصدرت المحكمة الإسرائيلية قراراً ادّعت فيه أنّ وجود السكان الفلسطينيين في منطقة القرية ليس قانونياً، وأنّ في إمكان السلطات إخلاءهم. وستنظر المحكمة العليا الإسرائيلية في هذه القضية، في بداية شباط المقبل، حيث ستقدّم النيابة العامّة ردّ الحكومة على الإخلاء، خاصة بعدما تولّى رئيس “حزب الصهيونية” بتسلئيل سموتريتش المسؤولية عن منع أعمال بناء في القرى الفلسطينية الواقعة في المناطق “ج” في الضفة الغربية، التي تقع خان الأحمر فيها.