كانت أمسيةُ السبت الماضي (10 كانون الأول الجاري) وليلته المعتمة في بيروت، أمسيةَ الفرح العربي بالمغرب في مونديال قطر وليلتَه. وهو فرح مضاعف باعثُه أنّ المونديال قطريٌّ وعربيٌّ، وأنّ منتخب المغرب فاز فوزاً مغربيّاً وعربيّاً متلاحقاً في مونديال على أرضٍ عربيّة. لذا شملت الفرحة ديار “العرب” ومهاجريهم أو جالياتهم في كثرة من بلدان العالم. وهو عالم تُجمِعُ سرديّاتٌ وآراء كثيرة فيه على اعتبار “العرب”، وربّما هم أيضاً يعتبرون أنفسهم، تائهين في تعطّشهم الحارق إلى أن تجمعهم وتوحّدهم فرحةٌ ما بنجاحٍ أو فوز أو انتصار في أيٍّ من مجالات الحياة وميادينها. وعلَّ هذا يمكّنهم من أن يلمحوا ضوءاً في نفق غُمّتهم المديدة التي نسوا أسبابَها المتراكمة منذ عقود، ومتى ولماذا بدأت، وكيف يمكنهم الخلاصُ منها: نكباتٌ وهزائمُ وعثراتٌ ومهانات، عسفُ حكّامٍ وعُتُوّهم وتسلّطهم واستئثارهم المديد، شِقاقٌ وانقلابات وقتل واغتيالات، ثورات مجهَضة ودامية، حروب أهليّة كثيرة وتشريد ولجوء، والموت غرقاً في البحار طلباً للفرار من خراب بلدانهم.
قطر- المغرب وأفراح العرب
لكن على الرغم من أنّ النسيان قد يكون علاجاً يسكِّنُ آلام هذه التجارب العربية المريرة، على ما تقولُ سُنّة حياة البشر الذين تصير حياتهم غير قابلةٍ للاحتمال إذا فقدوا ملكة النسيان، تظلّ حال “العرب” في نسيانهم أسباب عثراتهم تشبه حال من أضاع شيئاً ما في كومة قشٍّ كبيرة، وفي غمرة بحثه أو تفتيشه الطويل للعثور عليه، نسي ما هو الشيء الذي أضاعه ونسي اسمه، لكنّه استمرّ في البحث عنه بلا جدوى حتى أُصيب بالتيه والدوار.
تشبه حال المغرب العربي اليوم حال لبنان واللبنانيين حين تربّعت صبيّة من اللبنانيّات، جورجينا رزق، على عرش الجمال العالمي سنة 1970
قد يكون المثال الأقرب والأوضح على هذين التيه والدوار، حال أهل لبنان وجماعاته في أزمتهم الراهنة: ضياعهم وضياع بلدهم وخرابه منذ أكثر من 3 سنوات، من دون أن يتوصّلوا إلى تسمية ما حلّ بهم وأصابهم وتشخيصه. ثمّ عزفوا عن التفكير فيه، وتركوا للزمن أن يتدبّر أمرهم. وعقدوا العزمَ والهمّة على الصبر والتعايش مع نكبتهم صامتين “ساردين” أو شبه مخدّرين. واكتفوا بانتظار مواسم عودة المهاجرين ومجيء السّيّاح إلى مطار بلدهم المهمَل والصدئ، علّهم يتصدّقون عليهم بشيءٍ من فرحٍ ودولاراتٍ، تقلّل من عوزهم وغربتهم في بلدهم الصدئ والمعتَّم.
وفي غمرة حالهم هذه، تركوا لزعمائهم وحاشياتهم وأرهاطهم أن يسترسلوا إلى ما شاء الله في مبارزاتهم على من يكون الأقدر فيهم على الصَّغار والخسّة والدناءة التي يسمّونها سياسة: التربّص والخديعة والرياء والكذب والتدليس في التستُّر على النكبة الماحقة، إنكارها والتنصّل من المسؤوليّة عنها، والتعيُّش على امتناع العالم من علاجها، لأنّه سئم منهم وتركهم يتخبّطون في لُجّتها العميقة.
أمّا غُمّة “العرب” التي التي لا يشفيهم ولا يحرّرهم منها نسيانهم وغفلتهم عن أسبابها، بل يُبقيان الغُمّة مقيمةً وحيّةً في صدورهم ووعيهم ولاوعيهم لتاريخهم وهويّتهم القوميَّين والوطنيَّين. ربّما هذا لأنّ وجدانهم الجمعي يصوّر لهم أنّهم كانوا، في تاريخهم الماضي والبعيد، الذي حوّله انقضاؤه وانفصالهم وانقطاعهم المديد عنه إلى ما يشبه أسطورة أو خرافة، أصحابَ أمجاد وفتوحات تليدة اغتصبها منهم العالم أو ثأر منهم ومنها، ورماهم منذ قرون في المذلّة والهوان.
وفجأة فازت دولة من دولهم، وهي قطر، باستضافةِ كرنفال عالمي أو معولَم، كبير ومشهود، وتتنافس الدول المقتدرة دوريّاً كلّ 4 سنوات على الفوز باستضافته وتنظيمه على أرضها. وهذا يجعل أنظار سكّان الكرة الأرضية مشدودةً طوال شهر كامل إلى دولة عربية، فيظلّ اسمها لصيقاً بكلمة مونديال، ويتردّد على كلّ شفةٍ ولسان في أرجاء العالم كلّها: مونديال قطر العربي. لذا يشعر “العرب” اليوم بشيء من أمجادهم المحرومين منها مديداً. فها هم مرئيّون في قلب العالم المعولَم في هذا الكرنفال العالمي الكبير على أرضهم، وليسوا مهمّشين ومرميّين في خارجه أو على أطرافه البعيدة. وشعورهم هذا يُفرحهم لأنّه يبعث فيهم الأمل بأنّهم ليسوا منسيّين عالميّاً، وإذا ذُكروا فلا يُذكرون إلا في حوادث العالم ومصائبه الأليمة التي يعتبرون أنّها تُلصَق بهم: الحروب، التطرّف والإرهاب، التأخّر أو التخلّف، غياب العدالة والتنمية والحوكمة الرشيدة والديمقراطية، وأخبار وقائعَ سيل الهاربين من بلادهم مهاجرين ولاجئين فراراً من هذا كلّه.
وسرعان ما فاجأتهم السعودية بفوز معتبَر في المونديال القطري. لكنّ المفاجأة الكبيرة جسّدها الاختراق المغربي العربي الكبير بفوزه على صُنَّاع أمجاد كرة القدم الكبار في العالم في مونديالات سابقة مشهودة. وها “أسود المغرب” العربي يتأهّلون لمواجهة فرنسا، بعد فوزهم على منتخبات إيطاليا وإسبانيا والبرتغال. وهذا يعني أنّ “العرب” على قاب قوسين أو أدنى من إحراز الفوز والتربُّع على عرش البطولة العالمية لكرة القدم مدّة أربع سنوات.
لربّما تشبه حال المغرب العربي اليوم حال لبنان واللبنانيين حين تربّعت صبيّة من اللبنانيّات، جورجينا رزق، على عرش الجمال العالمي سنة 1970.
أفراح “العرب” الموندياليّة لا تنغّصها مثل هذه الحادثة الصغيرة، وسوف تستمرّ وتتجدّد على وجوه وأشكال كثيرة
أمسية “ليترَوْحَن رأس بيروت”
لكنّ لبنان اليوم غارق في غُمّته الحالكة، ويتحسّر أهله على أيام زهوهم وأمجادهم الغابرة، من دون أن يمنعهم هذا من المشاركة في الفرحة العربية الكبيرة مساء السبت المغربي – العربي المجيد، فيما كان منتخب المغرب يفوز على البرتغال في قطر.
كان شارع الحمرا مثلاً، على الرغم من عتمته وأفول الحياة فيه، يشهد بعض الازدحام في مقاهيه التي وضعت شاشات عملاقة على أرصفتها، متيحةً لروّادها مشاهدة المباريات الموندياليّة المغربية – البرتغالية المنتظَرة. أمّا “مسرح المدينة” المهجور في الشارع منذ زمن وتفوح فيه رائحة الهجران، ففتح أبوابه لاستضافة نشاطات “مبادرة حسن الجوار” التي كانت منسّقتها منى حلّاق تعلِّق إعلاناتها على لوحة الإعلانات في باحة المسرح الخارجية. والنشاطات الفنّية عنوانها “الجار للجار- أمسيات موسيقى وغناء، ليترَوْحَن رأس بيروت”، أي لينتعش وتدبّ فيه الروح وتُخرجه من الغيبوبة.
وإرادة بعث الروح في رأس بيروت وشارعها الرئيسي (الحمرا) تستغرق أسبوعاً من الحفلات الغنائية والموسيقية المتنقّلة، ويستضيف “مسرح المدينة” كثرة منها في كلّ أمسية. وقد استُهلّت أمسية السبت، أثناء المباريات المغربية الموندياليّة المشهودة، بحفلة فنّية عنوانها “ريحة شي” قدّمتها السوبرانو غادة غانم والشاعر طلال حيدر، “بحضور معالي وزير الثقافة القاضي محمد وسام المرتضى”، على ما ذُكر في الأفيش الإعلاني.
أمّا ما قُدّم في الأمسية، من الشاعر البعلبكي وصاحبة الصوت المميّز والشخصيّة الفنّية المميّزة، والعائدة إلى لبنان في تسعينيات القرن العشرين من تجربة فنّية أميركية مديدة في الغناء الأوبرالي والعربي، فكان أمسية لبعث الحنين إلى ما عرفه لبنان في حقب ماضية. وربّما هذا يناسب الجمهور الذي حضر الأمسية، وكان من غير الشبّان/ات. أولئك الذين لا يطربون للحنين، وقد يكون معظمهم/هنّ غادر لبنان الخراب، تاركاً الحنين وحسراته لجيل من المسنّين في سهرة تحاول إعادة الروح لرأس بيروت في مسرح من مسارحها المهجورة.
إقرأ أيضاً: مُنتخب المغرب “المُرضي”: الدنيا أُمّ
ولمّا خرج الحاضرون في نهاية أمسية الحنين تلك من المسرح، كان مئة شاب وفتىً من شبّان وفتيان الاحتفال والترويع على صهوات درّاجاتهم النارية، يحتفلون على طريقتهم بالنصر المغربي العربي في المونديال القطري: امتطوا درّاجاتهم الناريّة من أحد الأحياء البيروتية، وانطلقوا بها صاخبين مزمجرين في الشوارع المعتمة. فتوجّهوا إلى ساحة ساسين في الأشرفية، حيث أطلقوا عبارات طائفية نابية أثارت شبّان الأشرفية، فحصل بين الطرفين عراك وتضارب، تناقلت أخباره مواقع الإعلام الفوريّ.
لكنّ أفراح “العرب” الموندياليّة لا تنغّصها مثل هذه الحادثة الصغيرة، وسوف تستمرّ وتتجدّد على وجوه وأشكال كثيرة، في انتظار المباريات المغربية الفاصلة التي قد تترك في “الوجدان العربي” مأثرة تقلِّص مساحة صحراء تيههم وعثراتهم.