احتفلت الإمارات بعيدها الواحد والخمسين، وفي سدّة رئاستها للمرّة الأولى الشيخ محمد بن زايد، خلفاً لأخيه الراحل الشيخ خليفة.
ليس هذا الجديد وحسب، لو أخذنا بعين الاعتبار أنّ الشيخ محمد كان من موقع ولاية العهد، يقود بلاده لأكثر من عقد مضى، بعد مرض أخيه الراحل.
الجديد في إمارات اليوم هو قديمها، أو العودة الهادئة إلى قديمها الذي أسّسه الراحل زايد بن سلطان آل نهيان. العودة إلى “عقيدة زايد”، بعد سنوات “الربيع العربي” التي ذهبت بأبوظبي إلى جهات وأدوار ومهمّات لم تعرفها الإمارة الفدرالية ولا سعت إليها يوماً.
يمكن تلخيص “عقيدة زايد” بأنّها، في الداخل، تقوم على جمع الإماراتيّين، بمختلف قبائلهم ومشيخاتهم، على قواعد العدل والأمن والتسامح والرخاء، وفي الخارج، على إنتاج الوفاق في كلّ القضايا الخلافية، بدءاً من لمّ الشمل الخليجي أوّلاً (استضافة أبوظبي أوّل قمّة خليجية عام 1981)، ثمّ العربيّ، وصولاً إلى التزام قواعد العلاقات الدولية وتنوّعها خدمةً للسلم والأمن العالميَّين.
“إسبرطة الشرق الأوسط”
مع زايد كانت الإمارات “سويسرا الشرق الأوسط” بالمعنى السياسي لأدوار الحوار والوفاق الدولي التي تلعبها جنيف. ومع سنوات الربيع العربي، درج الإعلام الدولي على وصف الإمارة بأنّها “إسبرطة الشرق الاوسط” بعدما سمّاها وزير الدفاع الأميركي الأسبق جيمس ماتيس “إسبرطة الصغيرة”. استحقّت أبوظبي الصفة في إثر مراكمة عدد من النجاحات التي جعلت منها صاحبة القوّة العسكرية الأكثر فعّالية في المنطقة العربية، لناحية قدرتها الاستثنائية على نشر القوات في الخارج وإدارة العمليات الخاصة بكفاءة تتجاوز صغر حجمها ومحدوديّة إمكاناتها العدديّة. انخرطت الإمارات في حروب اليمن وليبيا، وواجهت فيها دولاً كبيرة كتركيا وإيران على نحو غير مباشر أو شبه مباشر. وحضرت في قلب الاشتباك السياسي مع الإخوان المسلمين، من مصر إلى تونس إلى السودان، ووسّعت مروحة الاشتباك السياسي، فشمل الدفاع عن تثبيت معادلات سياسية عربية في العراق والأردن، والتجسير بينهما وبين مصر، في مجالات الغاز والكهرباء والمياه. وذهبت باتجاه بناء شبكة تحالفات في حوض شرقيّ المتوسط مع اليونان وقبرص وإسرائيل ومصر لمواجهة المشروع التركي اقتصادياً وحرمانه من ترتيب بنية عائدات يتمّ توظيفها لاحقاً في دعم المشروع السياسي الإخواني الذي قادته تركيا.
لا نقول إنّ هذه الأدوار غريبة تماماً عن تجربة الإمارات، على جدّة واستثنائية بعض ملامحها. فلا ننسى أنّ الدولة أُسِّست في سنوات الجمر، بعد أربع سنوات على هزيمة عام 1967، وبدأت رحلتها عام 1971 في خضمّ سبعينيّات القرن الماضي وما شهده من منازعات عربية عربية وصلت ذروتها في اجتياح الراحل صدّام حسين للكويت عام 1990 وموقف الشيخ زايد الحاسم بالوقوف إلى جانب تحرير الكويت بعد فشل مبادرته للحلّ السلميّ مع صدّام.
وما هذا الإرث، مضافاً إلى موقف زايد الشهير عام 1973 حين قال إنّ البترول العربي ليس أغلى من الدم العربي، واضعاً إمكانات دولته الوليدة في خدمة “نصر أكتوبر”، إلا بعضٌ ممّا نسمّيه “قواعد عقيدة زايد”، بكامل أزهارها وسيوفها.
يمكن تلخيص “عقيدة زايد” بأنّها، في الداخل، تقوم على جمع الإماراتيّين، بمختلف قبائلهم ومشيخاتهم، على قواعد العدل والأمن والتسامح والرخاء، وفي الخارج، على إنتاج الوفاق في كلّ القضايا الخلافية
العودة إلى الحديقة الأولى
اليوم تعود الإمارات إلى حديقتها الأولى. اختُتم عام 2021 بمصالحة مع تركيا كانت عنواناً للهزيمة السياسية لمشروع الإخوان المسلمين وإقرار الرئيس رجب طيّب إردوغان بها يوم صافح الرئيس عبد الفتّاح السيسي على هامش مونديال قطر. كانت سبقت ذلك زيارة أمير دولة قطر الشيخ تميم بن حمد لمصر الصيف الفائت وتحيّته فرقة البروتوكول العسكرية المصرية بالانحناء لها في صورة تختصر مآلات عقد كامل من أعنف وأطول وأوسع اشتباك سياسي عربي – عربي.
في كلّ هذه التحوّلات، كان دور الإمارات مركزياً، وقيادياً، ولو على طريقة الإمارات، الساعية إلى “أكل العنب” لا “قتل الناطور”، الذي تجد أبوظبي دوماً طريقاً لترويضه.
فوق كلّ ذلك كان الخيار الإماراتي بقيادة مشروع السلام العربي الإسرائيلي بموجته الثانية، مع كلّ من المغرب والسودان والبحرين، بغية إحداث تغيير بنيويّ في الخطاب والممارسة السياسيَّين العربيَّين، بموازاة فتح قنوات اتصال مع إيران لترتيب حدٍّ أدنى من شروط المساكنة في الإقليم، وضبط الاشتباك مع طهران في حدود محمولة.
في عيدها الواحد والخمسين، أي في السنة الأولى من خمسينيّتها الثانية، تبدو أبوظبي “إسبرطة” أقلّ و”سويسرا” أكثر.
إقرأ أيضاً: بن سلمان يصدّر “فراشة الفرح” السعودية.. إلى إيران
قبل أيام، وفي اليوم نفسه حلّ فيها ضيفاً، الرئيس الإسرائيلي إسحاق هرتسوغ الذي شارك في مؤتمر “حوار أبوظبي للفضاء”، والتقى فيها الشيخُ محمّد القائمَ بأعمال وزير الدفاع في حكومة طالبان الملّا محمد يعقوب، نجل الزعيم التاريخي لطالبان الملّا عمر.
هذه الصورة تغني عن كلّ حديث مضاف.
لمتابعة الكاتب على تويتر: NadimKoteich@