في أوّل شباط من عام 1979، هبطت طائرة فرنسية في طهران، بعد 13 شهراً من بدء الثورة في أنحاء البلاد ضدّ نظام الشاه، حاملةً الخميني ليفتتح زمن “الثورة”. وسرعان ما تخلّص من معظم الجهات والأحزاب التي شاركت في الثورة ضدّ الشاه، وحوّل الثورة باتجاه صناعة نظام “ولاية الفقيه” الشيعية. على الرغم من أنّ أحزاباً قومية وأيديولوجية وسياسية أخرى شاركت في الإعداد والنضال، إلا أنّه نجح في “الفوز” بالسباق إلى السلطة.
في 20 تشرين الثاني 1979، كان السعودي جهيمان العتيبي يضع اللمسات الأخيرة على خطة احتلال الحرم المكّي، وادّعاء “ظهور الإمام المهدي المنتظر”، وفق الرواية الدينية الشيعية (السنّيّة أيضاً)، وكانت مجزرة راح ضحيّتها المئات من المهاجمين ومن قوات الأمن الرسمية ومن الذين اتّفق وجودهم في الحرم المكّي حينذاك. ودخل المجتمع السعودي منذ ذاك العام في مرحلة من التزمّت الديني. زاد من أسبابه الحرب في أفغانستان ضدّ “الإلحاد الشيوعي” التي انخرط فيها سعوديون إلى جانب عرب ومجموعات من مختلف الدول. وكانت تلك الحرب أحد أسباب ولادة ظاهرة “أسامة بن لادن”، الذي أرهق السعودية لاحقاً، سُمعةً وأمناً وسياسةً.
حين أحرق محمد البوعزيزي جسده داخل سوق تونسيّ في 17 كانون الأول 2010، لم يكن يعرف أنّ جسده سيحرق رئيس بلاده زين العابدين بن علي ونظامه السياسي، وسيحرق معمّر القذافي في ليبيا الجارة، وحسني مبارك في مصر القريبة
بين شباط الإيراني وتشرين الثاني السعودي 2,600 كيلومتر و9 أشهر كانت كافية لينضج الحَمْل الثوري الديني في إيران، وتكون الولادة المتعثّرة في مكّة المكرّمة. وإذا نظرنا بعد 43 عاماً، فسيكون سهلاً الاستنتاج أنّ العدوى السياسية والدينية والاجتماعية تكون شديدة حين تكون الظروف التاريخية متقاربة.
حين أحرق محمد البوعزيزي جسده داخل سوق تونسيّ في 17 كانون الأول 2010، لم يكن يعرف أنّ جسده سيحرق رئيس بلاده زين العابدين بن علي ونظامه السياسي، وسيحرق معمّر القذافي في ليبيا الجارة، وحسني مبارك في مصر القريبة، وسيكمل محاولاً الإطاحة بحكم آل الأسد في سوريا التي بقي منها بشّار “محافظاً على دمشق الصغرى”، بحسب المفكّر صادق جلال العظم، وسيتابع إلى اليمن، ثمّ يعبر في لبنان والعراق.
بوعزيزي إيران..
لا يمكن ألّا ننظر إلى المسألة من هذه العين، حين نسمع أنّ نظام الملالي في إيران قرّر “حلّ شرطة الأخلاق”، بعد شهور من الثورة الإيرانية المتجدّدة، التي كان “البوعزيزي” الخاصّ بها هو الفتاة مهسا أميني. تلك الفتاة الكردية التي أوقفتها شرطة الأخلاق بتهمة “ارتداء الحجاب بطريقة خاطئة”، وتوفّيت “تحت التعذيب” في 16 أيلول الفائت.
خبر حلّ “شرطة الأخلاق” أعلنه نظام الملالي عبر “وكالة الأنباء الطلّابية الإيرانية – إسنا”، في محاولة لتهدئة الثوّار ومعظمهم من الطالبات والطلاب والشابّات والشباب الذين خرجوا بعدما ضاقوا ذرعاً بهذا “النوع” من الشرطة، وبالفقر والظلم والاستبداد الديني، المخفوق والمجبول بالفساد السياسي والماليّ.
هذه الشرطة التي أُسِّست في 2007، مهمّتها ملاحقة الفتيات والنساء للحرص على ارتدائهنّ الحجاب، وتضايق الرجال إذا رأى عناصرها أنّ تسريحات شعرهم غير مناسبة. ولم يكن يعرف مَن أسّسها أنّها ستكون المسمار الأخير في نعش نظام الاستبداد الديني، باعتباره انتقل من محاصرة الناس في الحيّز السياسي والعامّ، إلى التدخّل في علاقتهم بأنفسهم وأجسادهم، وتجاوز الخطّ الأحمر بالانتقال من الانفراد بصناعة السياسة، إلى مراقبة “الأخلاق”، التي هي ما يلتزم به الإنسان بينه وبين نفسه، قبل أحكام القانون والمجتمع، أي أنّها ما يتطوّع الإنسان ليلتزم به، وما يعتبره مناسباً.
خبر حلّ “شرطة الأخلاق” أعلنه نظام الملالي عبر “وكالة الأنباء الطلّابية الإيرانية – إسنا”، في محاولة لتهدئة الثوّار ومعظمهم من الطالبات والطلاب والشابّات والشباب الذين خرجوا بعدما ضاقوا ذرعاً بهذا “النوع” من الشرطة
“أثر الفراشة” السعوديّ
في هذه الأثناء كان الأمير محمد بن سلمان، المولود بعد حادثة العتيبي بـ6 سنوات، في عام 1985، يستعدّ ليصير وليّ العهد السعودي. وبعد عام واحد من مبايعة والده ملكاً في سنة 2015، منع مجلس الوزراء السعودي في نيسان 2016 “هيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر” من “إيقاف الأشخاص أو التحفّظ عليهم أو مطاردتهم أو طلب وثائقهم أو التثبّت من هويّاتهم أو متابعتهم، وهي أمور تُعدّ من اختصاص الشرطة وإدارة مكافحة المخدّرات”. وأقرّت السلطات السعودية، تحت رعايته وإشرافه وبسعي منه شخصيّاً، تنظيماً جديداً لـ”هيئة الأمر بالمعروف” يحدّ من صلاحيّاتها ويمنعها من توقيف الأشخاص وملاحقتهم، ويشترط على أعضاء الهيئة أن يكونوا “من ذوي المؤهّلات العلمية، إضافة إلى حسن السيرة والسلوك”.
كان هذا بعد 9 سنوات من تأسيس “شرطة الأخلاق” في إيران. فيما كان محمد بن سلمان يُهيّئ لسلسلة أحداث، يمكن اختصارها بـ”أثر الفراشة”، التي ستنثر غبارها على طهران.
في نيسان نفسه أطلق الأمير محمد “رؤية السعودية 2030″، التي لها جدول أعمال اقتصادي وصناعي وماليّ “تاريخي”، سيؤثّر على مستقبل المنطقة والعالم، لكنّ الأهمّ أنّ هوامش هذه الرؤية ستتحوّل خلال سنوات إلى “محور” التغييرات الكبيرة في المنطقة.
إذ من ضمن خطة 2030، أنشأ ولي العهد محمد “الهيئة العامة للترفيه” في العام نفسه. وكان يسير بسرعة قادرة على خرق جدار الصوت في المستقبل. كان يتصرّف ويتّخذ قرارات بأيدي رجل ثلاثينيّ، وعقلٍ شابٍّ متّصل بزمانه. كان هو من يمسك بـ”الزمن”، مقابل دولة تنتظر “إمام الزمان”، وتسفك دماء اللبنانيين واليمنيين والسوريين والعراقيين والإيرانيين والبحرينيين وغيرهم…
كيف لهذا الشاب أن يعرف، في سنّ مبكرة، أنّ الانتصار على الذين يعيشون في الماضي، هو بالانتساب إلى المستقبل؟ وكيف قاد تلك المغامرة، بانياً الاقتصاد كي يستطيع قول “لا” لأميركا في 2021 و2022، ويحصّن مجتمعه قاطعاً له بطاقة عبور إلى المستقبل وانتساب إلى “الزمن” الحالي؟
حين قرّر الأمير محمّد “تحرير المرأة” السعودية، لم تكن سوى مسألة وقت قبل أن تقوم المرأة الإيرانية وتطالب بنزع الحجاب
المرأة والسيّارة والسينما
في العام نفسه، 2016، وبعد “تقييد” صلاحيّات “هيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر”، نقل البلاد من الخوف والقلق والكراهية لـ”شرطة الأخلاق” بنسختها السعودية، إلى رحاب التفكير في “الترفيه”. وخلال عامين كان قد بدأ تنفيذ هدف إدخال الفرحة والبهجة إلى المجتمع السعودي.
ثمّ في أيلول 2017 أصدر الملك سلمان أمراً سمح بإصدار رخص للنساء لقيادة السيارات في السعودية، مساواةً للإناث بالذكور. وفي حزيران 2018 نفّذ القرار.
في 2017 أيضاً أعلنت السعودية أنّها ستمنح ترخيصاً لافتتاح صالات للعرض السينمائي في 2018، بعد حظر دام أكثر من ثلاثة عقود. وفعلاً عادت السينما إلى المملكة.
كم يختلف هذا الكلام عن كلام الملالي في إيران وقادة جيوشهم وجنرالاتهم، الذين يطلبون من المواطنين الصبر على الجوع، وخرج عليهم مرشدهم الأعلى علي خامنئي، بعد شهرين من الثورة، ليشرح لهم أهميّة دفع مليارات الدولارات من جيوبهم لميليشيات تبعد عنهم آلاف الكيلومترات، بدل التنمية الداخلية، فقال لهم: “وجودنا في العراق وسوريا ولبنان أفشل مشروع أميركا لضربنا”.
إقرأ أيضاً: العمامة الطائرة: ضدّ الدين… أو الزيّ التنكّري؟
حين قرّر الأمير محمّد “تحرير المرأة” السعودية، لم تكن سوى مسألة وقت قبل أن تقوم المرأة الإيرانية وتطالب بنزع الحجاب. وحين قيّد “هيئة الأمر بالمعروف” لم تكن إلا مسألة وقت قبل أن يلاحق شباب إيران رجال الدين الذي يتحكّمون بالنظام السياسي، ويجبرونهم على خلع العمامات التي باتت ترمز هناك إلى استبداد السلطة وليس إلى الدين نفسه. وحين عادت البهجة والفرحة إلى مدن السعودية، لم يكن بعيداً موعد أذان الغيرة الجغرافية في إيران، فيسأل المواطنون أنفسهم: “لماذا نبني مصانع الصواريخ بدل المدن الحديثة؟ ولماذا ندفع للميليشيات المذهبية بدل تعليم أبنائنا وتطوير حياتنا؟ ولماذا يحكمنا رجال مسكونون بالغيب، في حين يمكن أن ننتسب إلى مستقبل واضح ومحدّد نصنعه بأيدينا؟”.
بعد 43 عاماً وصلت “فراشة فرح” محمد بن سلمان إلى سماء طهران، ونساء إيران شاهداتٌ على ذلك.