صارت متعذّرة قراءة الأحوال/الأهوال اللبنانية بمعزل عن جملة معطيات ومتغيّرات خارجية. فمن يريد أن يعرف ماذا في لبنان فعليه أن يراقب ما يجري في الإقليم. ومن يريد متابعة صراعات الدول واتّصالاتها فلا بدّ له من النظر إلى سياق الأحداث السياسية اللبنانية.
قمّة عمّان المنتظَرة
يمرّ الوصول إلى هذه الخلاصة بجملة معطيات مترابطة تصبّ كلّها في اتجاه واحد: لبنان ملفّ مفتوح للدول الإقليمية والدولية. صحيح أنّه لا يحلّ في المرتبة الأولى في سلّم الأولويّات، لكنّ ما يجري في المحيط ينعكس على الساحة الداخلية اللبنانية، وأيّ تسوية في الداخل لا بدّ أن تكون مستمدّة من سياق خارجي. وآخر ما يراهن عليه اللبنانيون في وقتنا الحالي هو قمّة عمّان لدول الجوار العراقي، التي شهدت مساعي فرنسية واضحة لإثارة الملفّ اللبناني مع رؤساء وممثّلي الدول، ومحاولات من الرئيس الفرنسي لإثارته مع السعوديين والإيرانيين. لكن قبل الوصول إلى ذلك لا بدّ من العودة إلى جملة معطيات كثيرة، منها:
– الأزمة اللبنانية مدوّلة عملياً، بناء على شروط صندوق النقد الدولي.
– الفروض الدولية واضحة: ضرورة إنجاز الإصلاحات الاقتصادية والسياسية.
– بحث بين عدد من العواصم في سبل الوصول إلى تسوية سياسية تقود إلى انتخاب رئيس للجمهورية وتشكيل حكومة.
من يريد أن يعرف ماذا في لبنان فعليه أن يراقب ما يجري في الإقليم. ومن يريد متابعة صراعات الدول واتّصالاتها فلا بدّ له من النظر إلى سياق الأحداث السياسية اللبنانية
رهانات فاشلة
لكنّ هذه الاستحقاقات سبقتها رهانات:
– أوّلاً، راهن اللبنانيون كثيراً على إنجاز ملفّ ترسيم الحدود للبناء عليه سياسياً: في الداخل من خلال استدراج حلول خارجية تؤدّي إلى إنتاج تسوية سياسية ستكون مرتبطة بمساعدات اقتصادية. وهذا ما لم يحصل بل حصل العكس: ضاعت لحظة الترسيم سياسياً واقتصادياً.
– ثانياً، ارتبط اتفاق الترسيم بتسوية سياسية واضحة في العراق أدّت إلى انتخاب رئيس للجمهورية متفاهم مع إيران، وتشكيل حكومة تابعة لها ولحلفائها العراقيين. لكنّ التسوية أُنجزت بناء على شروط واضحة: رفع نسبة إنتاج النفط العراقي بتنسيق مع واشنطن، وتوقُّف العراق عن تصدير الفيول والمحروقات إلى سوريا. وهذا ما انعكس ارتفاعاً في منسوب الأزمة السورية القابلة للانفجار، في حال استمرّ الوضع على حاله، أو بكلام آخر، ارتفاع حدّة “التجويع” و”تجفيف” المال والسلع الأساسية.
– ثالثاً، لم تنجح الرهانات اللبنانية بعد اتفاق الترسيم على تمرير الفيول الإيراني إلى بيروت، إذ كان الرفض الأميركي واضحاً. وكذلك التردّد الإيراني باعتبار أنّ وضعها الاقتصادي لا يسمح بتقديم هبات كما وعد السفير الإيراني.
– رابعاً، لم يحصل لبنان على الاستثناءات المطلوبة لإعفائه من تداعيات عقوبات قانون قيصر للحصول على الغاز المصري والكهرباء الأردنية. بل إنّ الكونغرس الأميركي ذهب إلى إقرار قانون جديد يمنع منح أيّ استثناء يستفيد منه النظام السوري.
تشير هذه النقاط الأربع إلى كيفية تعامل الولايات المتحدة الأميركية مع خصومها. ففي كلّ مرّة يظنّ خصوم واشنطن أنّهم أبرموا اتفاقاً معها أو حصل تقاطع مصالح بينهم وبينها وينتظرون الظفر بالنتائج، يُفاجأون بأن لا شيء تحقّق لهم، وأنّ الضغوط عليهم تزايدت. وهذا ما ظهر في العراق وسوريا ولبنان.
إيران والسعوديّة وفرنسا
يأتي هذا على وقع تزايد الاحتجاجات الشعبية في الداخل الإيراني، ربطاً بتصاعد، ولو بطيء، في المواقف الدولية التي تؤيّد التظاهرات وتدين ممارسات نظام الملالي. وهذا ما يحمل طهران على البحث في مسألتين أساسيّتين:
– الأولى: احتمال التصعيد في المنطقة وفي الساحات التي تصل إليها يد إيران وميليشياتها، لمحاولة “مقايضة” التهدئة بتبريد الداخل الإيراني، تمهيداً لطرح الملفّات كلّها على طاولة التفاوض.
– الثانية: وجود أفكار في الداخل الإيراني تبحث عن التهدئة والتواصل مع الغرب والدول العربية لإيجاد قواسم مشتركة تؤدّي إلى الحدّ من التصعيد.
الموقف السعودي من الملفّ اللبناني لا يزال على حاله. وهو يرتبط بمندرجات الورقة الكويتية التي جاء بها وزير الخارجية قبل عام تماما، في كانون الثاني 2022، من دون الدخول في تفاصيل الأسماء والزواريب الداخلية
استناداً إلى هذه القراءة ينتظر لبنان سلسلة تحرّكات إقليمية ودولية هدفها الوصول إلى صيغة تسوية سياسية حوله وعليه. لذلك راهن لبنان على قمّة بغداد 2 التي تُعقد في العاصمة الأردنية عمّان، وتجمع ممثّلين عن دول الجوار العراقي ودول “النفوذ” السياسي والعسكري فيه. وسعي الرئيس الفرنسي إلى إثارة الملفّ اللبناني مع الوفدين السعودي والإيراني على وقع رفض المملكة العربية السعودية الدخول في التفاصيل والأسماء، مع التشديد على مبدأ إنجاز الاستحقاقات اللبنانية بما يتلاءم مع الشروط الدولية، وأهمّها:
– تلازم انتخاب رئيس الجمهورية مع تعيين رئيس للحكومة يكون منسجماً معه، وفق ما نقلته مصادر بكركي عن لسان السفير السعودي وليد البخاري.
– احترام القرارات الدولية وتطبيقها، خصوصاً بعد حادثة الاعتداء على دورية تابعة للكتيبة الإيرلندية العاملة ضمن إطار قوات الطوارئ الدولية (اليونيفيل).
– الحرص على تحسين علاقات لبنان العربية واستعادة الثقة به بالتركيز على مسألة ضبط الحدود ومنع تهريب المخدّرات إلى دول الخليج.
– إنجاز الإصلاحات السياسية والاقتصادية المطلوبة وفق شروط صندوق النقد الدولي مع إقرار خطة التعافي، التي يمكن من خلالها استعادة عناصر ثقة المجتمع الدولي والجهات المانحة بلبنان.
خلاصات انتهاء القمّة
أما وقد انتهت القمّة، فإنّ الموقف السعودي من الملفّ اللبناني لا يزال على حاله. وهو يرتبط بمندرجات الورقة الكويتية التي جاء بها وزير الخارجية قبل عام تماما، في كانون الثاني 2022، من دون الدخول في تفاصيل الأسماء والزواريب الداخلية.
لذلك ثمة خلاصات يمكن الاشارة اليها قد خرجت من قمة عمّان:
أولاً، على الرغم من السعي الفرنسي لإثارة ملف لبنان بين الدول المعنية ولا سيما السعودية وإيران، لم يتضمن البيان الختامي للقمة أي اشارة حول لبنان او كيفية إنجاز تسوية فيه.
ثانياً، اللقاء الذي أعلن عنه وزير الخارجية الإيراني مع وزير الخارجية السعودي كان عمومياً وتناول إمكانية عودة الحوار بين الطرفين من دون الدخول في تفاصيل الملفات، وحتى ملف اليمن لم يتم التداول به.
ثالثاً، تعمل ايران وفق منطقين متعارضين: الأوّل هو سياسة التهدئة والديبلوماسية، وهو ما يعلنه حزب الله ايضاً، بالدعوة إلى الحوار والتوافق. والثاني هو استمرار استخدام لغة التصعيد والتهديد، كما جاء على لسان قائد فيلق القدس في الحرس الثوري الإيراني. وهذا يعني أنّ طهران تسعى إلى تخفيف الضغط الداخلية عنها، سواء بالديبلوماسية أو من خلال اعادة تحريك الساحات في المنطقة.
رابعاً، يبدو أنّ الدول المتخاصمة مع طهران ليست في وارد أن تقدّم لها ما تريد من خلال الديبلوماسية. وبمعنى اوضح: مطالبة ايران حالياً باللجوء إلى البحث عن حلول سياسية بالمفاوضات يعني استعداداً لتقديم تنازلات، وهذه التنازلات قد تكون أكبر في مرحلة لاحقة نتيجة استمرار الضغط الخارجي والتحركات الاحتجاجية في الداخل، وفي ظل اعتبار الأميركيين أنّ الاتفاق النووي بحكم الميت.
إقرأ أيضاً: إيران تضع سليماني على طاولة قمة بغداد
خامساً، كلمة الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون في القمة وقوله إنّ الأزمات السورية والعراقية واللبنانية تحتاج إلى تعاون صادق بين القوى الإقليمية، يعني بشكل واضح اعتراف بأنّ حل الازمة في لبنان بات يحتاج إلى معطى إقليمي، ويحتاج إلى تسوية على صعيد أكبر يشمل ملفات المنطقة الأخرى. وهذا اعتراف ضمني بأنّ المبادرة الفرنسية حول لبنان والتي غاصت في تفاصيل كثيرة منذ رعاية حكومة حسان دياب إلى رعاية حكومة نجيب ميقاتي التي لم تسهم في تقديم الحلّ. وهذا يعني عودة فرنسية إلى القناعة بالحاجة لحلّ الأزمة مع إيران وليس مع فروعها، بخلاف ما كانت باريس سابقاً تحاول إقناع السعودية به وهو أنّ الحل يكمن في الحوار مع حزب الله.
هل يغيّر اللقاء الفرنسي – السعودي – الأميركي – القطري المفترض عقده في باريس الأسبوع المقبل، هل يغيّر من مضمون هذه الخلاصات؟..
للبحث صلة..