استعاض حزب الله عن البحث في الاستراتيجية الدفاعية بتكريس استراتيجية جديدة يمكن إطلاق عليها صفة استراتيجية الورقة البيضاء التي تحتاج إلى تشريع. وفق هذا المنظور فقط تجدر قراءة استبسال الحزب في عقد جلسة حكومة تصريف الأعمال وإكمال نصابها. وحده حزب الله هو الرابح من تلك الجلسة، على الرغم من كلّ الأوهام التي غرق فيها كثر من خصومه أو من الوسطيّين بأنّ ما انتصر هو المبدأ العام في مواجهة تعطيل التيار الوطني الحرّ ورئيسه للأسباب الخاصة والمعروفة.
مع توجيه رئيس حكومة تصريف الأعمال نجيب ميقاتي دعوة إلى عقد جلسة حكومية، ارتفع استشعار “الانتصار” لدى بعض أهل السُنّة، الذين تمسّكوا بوهم يُخرجهم من حالة القهر السائدة. لحظة إعلان ميقاتي موعد الجلسة، كان وزير الأشغال العامّة علي حميّة يجول في عكّار، تلك المنطقة التي ينشط فيها حزب الله منذ أشهر في محاولات لاختراقها تعود إلى ما قبل الانتخابات النيابية، وتحديداً بعد انفجار التليل، حين لم يجرؤ أيّ زعيم سنّيّ على زيارة المنطقة، فيما زارتها وفود من الحزب وقدّمت مساعدات ودعم مالي لذوي الضحايا. وما يزال نشاط الحزب متركّزاً في تلك المنطقة عن طريق إرسال المساعدات، بالإضافة إلى نشاط لحزب البعث العربي الاشتراكي.
وضع الحزب ميقاتي أمام خيار من اثنين، إمّا أن تكون بين أيدينا لتنقذ نفسك وحكومتك، وإمّا أن تكون خاضعاً لجبران باسيل وثلثه المعطّل
لا ينفصل تركيز الحزب على عكار عن الاهتمام البالغ بالبيئة السنّيّة ككلّ التي يحاول ويسعى باستمرار إلى استقطاب المزيد منها إلى جانبه على قاعدة تقديم المساعدات الماليّة والعينية في ظلّ غياب هذه القدرات لدى خصومه. أمّا إعلان وزير الأشغال العامّة علي حميّة من عكّار استعداد وزراء حزب الله للمشاركة في الحكومة فهذا له دلائل وأهداف كثيرة، منها إشعار السُنّة بأنّ انتصاراتهم تمرّ من خلال حزب الله ومواقفه. وهذا ما غرق فيه كثر بدءاً من رئيس الحكومة نجيب ميقاتي إلى آخرين.
8 أهداف لحزب الله
صحيح أنّ ميقاتي سجّل نقطة في رصيده، وهو يشبه أرصدة اللبنانيين في المصارف، أرقام مدرجة على الورقة فقط لا قدرة شرائية لها ولا قوة نقدية. انطوى سعي حزب الله إلى إكمال نصاب الجلسة على أكثر من هدف ورسالة:
– أوّلاً، وضع الحزب ميقاتي أمام خيار من اثنين، إمّا أن تكون بين أيدينا لتنقذ نفسك وحكومتك، وإمّا أن تكون خاضعاً لجبران باسيل وثلثه المعطّل.
– ثانياً، أثبت حزب الله لميقاتي أنّه الوحيد القادر على ضمان انعقاد مجلس الوزراء، وأنّه الوحيد القادر على التحكّم بجدول أعماله وإسقاط بنود منه وإضافة بنود أخرى.
– ثالثاً، عمل الحزب على إسقاط البنود المتعلّقة بزيادة الضريبة على القيمة المضافة واعتماد سعر صرف جديد للدولار الجمركي، وهذه ضمن لعبة الحزب الشعبوية في رفض الضرائب والزيادات عليها.
– رابعاً، أمسك الحزب عصاه من الوسط، بحيث يحتاج باسيل للتمسّك بها كي لا يغرق، ويحتاج ميقاتي إلى التمسّك بطرفها الآخر كي لا يقع.
صحيح أنّ ميقاتي سجّل نقطة في رصيده، لكنّه لا يمتلك هذا الرصيد، أو هو بالأحرى يشبه أرصدة اللبنانيين في المصارف، أرقام مدرجة على الورقة فقط لا قدرة شرائية لها ولا قوة نقدية
– خامساً، أوصل حزب الله رسالة واضحة إلى باسيل بأنّه قادر على فعل ما يشاء عندما يريد، وأنّه لا يمكن لرئيس التيار الوطني الحرّ أن يتوهّم قدرته على استدراج الحزب إلى حيث يريد، وما حقّقه من مكتسبات سابقاً كان عن سبق إصرار وتصوّر من الحزب وليس بفعل قوّة رئيس التيار منفرداً.
– سادساً، ما انطبق على جلسة الحكومة لا بدّ من ربطه بما جرى في جلسة انتخاب رئيس مجلس النواب ونائبه، ونعني مسألة إكمال النصاب وجمع الأصوات اللازمة وفق استراتيجية الـ65 صوتاً.
– سابعاً، قال حزب الله لكلّ القوى إنّ القرار النهائي في الاستحقاق الرئاسي عائد له، وعلى باسيل إمّا العودة إلى بيت الطاعة، أو الاستمرار في المعارضة وحيداً مع انعدام قدرته على التعطيل بدون غطاء من الحزب.
– ثامناً، مرّر الحزب جلسة الحكومة بحدّ أدنى من الحضور المسيحي، وهو ما يمكن سحبه على أيّ جلسة انتخابية لاحقاً، من خلال رمزيّة أنّ الالتقاء السنّيّ الشيعي مع استقطاب الدروز وبعض المسيحيين كافيان لإنتاج تسوية.
اليوميات و”الاستراتيجيا”
خلاصة القول، أجاد حزب الله استخدام كلّ أوراق القوة لديه، وخيّر الجميع بين التفاهم معه لإنتاج التسويات أو الانعزال، فيما هو قادر على إبرام تسوية على القطعة ووفق المقتضى. في هذه المعادلة، يبدو الحزب وكأنّه يعيد إحياء معادلة سابقة لكنّها أكثر تعمّقاً في اليوميّات اللبنانية، فكما كان الوضع في التسعينيات مقسّماً بين سياسة داخلية واقتصادية يديرها الأفرقاء في الداخل، وبين سياسة خارجية وعسكرية تقودها دمشق مع حزب الله ومن خلفهما إيران، يقول الحزب حاليّاً إنّ الحكومة مهمّتها الانعقاد، لكنّ المتحكِّم بجدول أعمالها وسياساتها هو حزب الله. تعيد هذه المعادلة التركيز على التحالف بين الحزب والتيار الوطني الحرّ الذي قام سابقاً على منح السلطة ومكاسبها للتيار مقابل منح التيار الغطاء للحزب في سياساته الخارجية وانخراطه في ساحات المنطقة.
إقرأ أيضاً: باسيل ربح على ميقاتي بأمين سلام
ما تحقّق بالنسبة إلى حزب الله أمر في غاية الأهمية، فهو غير جاهز حاليّاً لتغيير استراتيجية الورقة البيضاء، ولا يريد تحمّل وزر عدم انتخاب رئيس جديد للجمهورية، فمَنَح الحكومة دوراً وأعطاها صلاحيّات لجنة عاديّة مهمّتها توفير محروقات وتنظيم إجراءات يومية تتعلّق بالأدوية وغيرها من الأمور الحياتية، فيما الأمور السياسية والاستراتيجية تبقى معقودة له.
إذاً هو تنازل عن استراتيجية “اليوميّات” من أجل استراتيجية الورقة البيضاء من خلال تفعيل عمل الحكومة والسعي إلى تفعيل عمل مجلس النواب. ليس كلّ ذلك مدعاة نشوة.