الرئاسة حلم كلّ ماروني. كلّ ماروني مشروع رئيس، إلا أنّ الذي يتبوّأ منصب وزير الخارجية يكون أكثر جدّيةً وأوفر حظّاً من بينهم، ذلك أنّ المنصب مفتاح تأسيس وتكوين علاقات مع الخارج الذي هو، في هذا الوطن الصغير، لاعب أساسيّ لا يمكن تجاوزه، وهو أيضاً منصب يتقن شاغله ممارسة العمل السياسي بأبهى صوره وتجلّياته. منذ إقرار اتفاق الطائف، لم يساعد المنصب أيّاً من شاغليه في الوصول إلى كرسي بعبدا، من فارس بويز، صهر الجمهورية الأوّل، إلى صهرها الأخير جبران باسيل، فهل يحالف الحظّ ناصيف حتّي؟
هو دبلوماسي من الدرجة الأولى، وسفير سابق وناطق رسمي باسم الجامعة العربية، حاول جبران باسيل إلباسه لبوس “العونيّة السياسية”، وإلصاقه بمدير مكتبه المطواع السفير هادي الهاشم، فأدّى ذلك إلى صدامات وتوتّرات في العمل في مساحات وزارة الخارجية التي غابت فيها القاعات وامتلأت بالأروقة والكواليس غير الدبلوماسية، فما كان من الرجل إلا أن قدّم استقالته رافضاً الإفصاح عن الأسباب الحقيقية لها، فاستدعى إعجاباً به من الرأي العامّ، لكنّه أوجد “نقزة” لدى قادة هذا الرأي والمنتدى السياسي الذي اعتبر أنّ حتّي قد يستسلم بسرعة أمام أيّ تحدٍّ.
دبلوماسية حتّي قد تقوده إلى قصر بعبدا، فوفق معادلة “لا غالب ولا مغلوب” المطلوبة اليوم، وبشدّة، للوصول بالبلاد والعباد إلى برّ الأمان
ناصيف حتّي، صاحب النظريّات في العلاقات الدولية ومستقبل العالم العربي، هو شخصيّة مسالمة تكره العنف وتتحاشى الدخول في المناقشات العقيمة، ويبتعد قدر ما يقدر عن الوجوه المستفزّة التي تعمل على أذيّته أو بثّ الشائعات السلبية من حوله. حتّي حسّاس وطيّب القلب ولا يقدم على عمل إلا بعد تفكير طويل وعميق، لكنّه كثير التردّد، ونادراً ما يبادر في الاتجاه المطلوب، خصوصاً إذا كان الموقف يتطلّب شجاعةً استثنائيةً أو معامرة محدودة.
من نافل القول أنّ الأكاديمي ناصيف حتّي قد حمل معه جزءاً من روح المؤرّخ فيليب حتّي إلى عمله في جامعة الدول العربية، حيث بنى ما يكفي من الثقة والعلاقات. وقد ساعدته مؤهّلاته على تجاوز المراهقات السياسية التي كانت تغمر الطوائف في لبنان، وأبرزته دبلوماسياً رفيعاً، يُحسن تدوير الزوايا وإدارة عجلات الوساطات حيث يجب، لإصلاح ذات البين بين طرفين بعناد وإصرار قلّ نظيرهما، لكنّ الأهمّ من دون أيّ مسؤوليّة تقع عليه لأنّ طبيعة الوسيط تفرض وفي الوقت نفسه تمنع اللوم على الوساطة كيفما أتت النتائج!
وكأنّ ناصيف حتّي الذي جرؤ على مواجهة جبران باسيل وعمّه وغادر، يستطيع أو يفضّل أن يكون وسيطاً بين مختلفين أكثر من أن يكون حَكَماً بل قل حاكماً يأمر وينهي ويدير ويتحمّل المسؤولية بنفسه تجاه وطن مشظّى أو تجاه رأي عامّ متقلّب ومتطلّب… ومعظمه سخيف كثير المطالب.
إقرأ أيضاً: العسكر في بعبدا: “حكمة سليمان” والدمار العوني الشامل
دبلوماسية حتّي قد تقوده إلى قصر بعبدا، فوفق معادلة “لا غالب ولا مغلوب” المطلوبة اليوم، وبشدّة، للوصول بالبلاد والعباد إلى برّ الأمان، الدبلوماسية خير طريق لاجتياز المرحلة المقبلة، وهي خير سلاح للعبور فوق حقل الألغام اللبناني الذي ينفجر عند كلّ ملفّ أو قضيّة أو حتى تعيين. حتّي، بدبلوماسيّته المعهودة، قادر على تجنّب الاصطدام المباشر إذا وصل إلى سدّة الحكم، لكن هل هو قادر على الحكم؟ علاقات حتّي العربية والدولية قد تساعده. ظروف المعركة الرئاسية كذلك، إذ لا مفرّ من أهون الشرّين في مكان ما أو في لحظة ما بالنسبة إلى جبران باسيل. اقترب حتّي بصمت، وبصمت ابتعد، فما الذي ينطق خلف هذا الصمت؟ ثمّة من “ينقز” منه بسبب استقالته الشهيرة، وثمّة من يضعها في خانة السعي إلى الوصول إلى ما هو أبعد وأعلى من وزارة الخارجية… فهل حانت الفرصة؟ أبعد من ذلك، هل حان الوقت لـ”تقريش” الاستقالة، أو لدفع ثمنها؟